صلاح
الدين الأيوبي: بطل الوحدة والتحرير
فِي
القَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ المِيلَادِيِّ، وَفِي زَمَنٍ كَانَت فِيهِ الحُرُوبُ
الصَّلِيبِيَّةُ عَلَى أَشُدِّهَا، بَزَغَ نَجْمُ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ مُسْلِمٍ
سَيُصْبِحُ أَحَدَ أَعْظَمِ القَادَةِ فِي التَّارِيخِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ
الأَيُّوبِيُّ. وُلِدَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَاسْمُهُ الحَقِيقِيُّ يُوسُفُ بْنُ
أَيُّوبَ، فِي تِكْرِيتَ عَامَ 1137م، فِي عَائِلَةٍ كُرْدِيَّةٍ نَبِيلَةٍ.
مُنْذُ صِغَرِهِ، أَظْهَرَ ذَكَاءً وَفِطْنَةً، وَتَلَقَّى تَعْلِيمًا
عَسْكَرِيًّا وَدِينِيًّا مُمَيَّزًا.
بِدَايَةُ
المَسِيرَةِ
بَدَأَ
صَلَاحُ الدِّينِ مَسِيرَتَهُ العَسْكَرِيَّةَ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ
زَنْكِي، الحَاكِمِ القَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَسْعَى لِتَوْحِيدِ المُسْلِمِينَ
ضِدَّ الصَّلِيبِيِّينَ. أَظْهَرَ صَلَاحُ الدِّينِ شَجَاعَةً وَحِنْكَةً فِي
المَعَارِكِ، حَتَّى أَصْبَحَ قَائِدًا عَسْكَرِيًّا مَرْمُوقًا. عِنْدَمَا
تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ، تَوَلَّى صَلَاحُ الدِّينِ قِيَادَةَ مِصْرَ،
وَأَعْلَنَ نَفْسَهُ سُلْطَانًا، مُتَّحِدًا تَحْتَ رَايَتِهِ مِصْرَ وَسُورِيَا
وَأَجْزَاءً مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ.
تَحْرِيرُ
القُدْسِ
كَانَ
الهَدَفُ الأَعْظَمُ لِصَلَاحِ الدِّينِ تَوْحِيدَ المُسْلِمِينَ وَتَحْرِيرَ
القُدْسِ مِنَ الاحْتِلالِ الصَّلِيبِيِّ. فِي عَامِ 1187م، قَادَ صَلَاحُ
الدِّينِ جَيْشًا قَوِيًّا فِي مَعْرَكَةِ حِطِّينَ الشَّهِيرَةِ.
تَمَكَّنَ مِنْ تَحْقِيقِ نَصْرٍ عَظِيمٍ، حَيْثُ حَطَّمَ جَيْشَ الصَّلِيبِيِّينَ
وَأَسَرَ العَدِيدَ مِنْ قَادَتِهِمْ. بَعْدَ المَعْرَكَةِ، سَارَ صَلَاحُ
الدِّينِ نَحْوَ القُدْسِ، حَيْثُ نَجَحَ فِي تَحْرِيرِهَا بَعْدَ 88 عَامًا مِنَ
الاحْتِلالِ.
التَّسَامُحُ
وَالعَدَالَةُ
رَغْمَ
انْتِصَارِهِ الكَبِيرِ، أَظْهَرَ صَلَاحُ الدِّينِ صِفَاتٍ نَادِرَةً مِنَ
الرَّحْمَةِ وَالتَّسَامُحِ. عِنْدَمَا دَخَلَ القُدْسَ، أَمَرَ بِحِمَايَةِ
جَمِيعِ سُكَّانِهَا، مُسْلِمِينَ وَمَسِيحِيِّينَ وَيَهُودًا. سَمَحَ
لِلصَّلِيبِيِّينَ بِالمُغَادَرَةِ بِأَمَانٍ، وَأَظْهَرَ إِنْسَانِيَّةً
أَثَارَتْ إِعْجَابَ أَعْدَائِهِ قَبْلَ أَصْدِقَائِهِ.
مُعَاهَدَةُ
الرَّمْلَةِ
اسْتَمَرَّتِ
المَعَارِكُ بَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ وَالصَّلِيبِيِّينَ لِسَنَوَاتٍ، حَتَّى
جَاءَ المَلِكُ رِيتْشَارْدُ قَلْبُ الأَسَدِ إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ. دَارَ
بَيْنَهُمَا صِرَاعٌ مَرِيرٌ، لَكِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَظْهَرَ عَظَمَةَ
أَخْلَاقِهِ، حَيْثُ قَدَّمَ المُسَاعَدَةَ الطِّبِّيَّةَ لِعَدُوِّهِ
رِيتْشَارْدَ عِنْدَمَا مَرِضَ. انْتَهَى الصِّرَاعُ بِمُعَاهَدَةِ الرَّمْلَةِ
عَامَ 1192م، الَّتِي سَمَحَتْ لِلمَسِيحِيِّينَ بِالحَجِّ إِلَى الأَمَاكِنِ
المُقَدَّسَةِ.
وَفَاةُ
البَطَلِ
فِي
عَامِ 1193م، تُوُفِّيَ صَلَاحُ الدِّينِ الأَيُّوبِيُّ فِي دِمَشْقَ عَنْ عُمُرٍ
نَاهَزَ 55 عَامًا. رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا لِإِمْبَرَاطُورِيَّةٍ
وَاسِعَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ مَاتَ فَقِيرًا، إِذْ وَزَّعَ مُعْظَمَ ثَرْوَتِهِ
عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ.
إِرْثُ
صَلَاحِ الدِّينِ
ظَلَّ صَلَاحُ الدِّينِ رَمْزًا لِلْقَائِدِ المُسْلِمِ العَادِلِ وَالشُّجَاعِ. شَخْصِيَّتُهُ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ أُسْطُورَةٍ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، بَلْ حَتَّى فِي الغَرْبِ، حَيْثُ أَثْنَى عَلَيْهِ المُؤَرِّخُونَ الأُورُوبِّيُّونَ. قِصَّتُهُ تُعَلِّمُنَا أَنَّ القِيَادَةَ الحَقِيقِيَّةَ لَا تَكْمُنُ فِي القُوَّةِ العَسْكَرِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ فِي العَدَالَةِ، الرَّحْمَةِ، وَالوَحْدَةِ.