الأمانة والوفاء في قرية سالم
فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَضِنُهَا ٱلتِّلَالُ ٱلْخَضْرَاءُ وَتَتَلَأْلَأُ فِيهَا ٱلشَّمْسُ كُلَّ صَبَاحٍ كَأَنَّهَا تَرْسُمُ مَشَاهِدَ مَنْظُومَةٍ مِنَ ٱلْحُبِّ وَٱلسَّلَامِ، كَانَ يُوجَدُ رَجُلٌ يُدْعَىٰ سَالِم. كَانَ سَالِمُ مَعْرُوفًا فِي أَوْسَاطِ ٱلْقَرْيَةِ بِأَنَّهُ مِثَالُ ٱلْكَرَمِ وَٱلْأَمَانَةِ. عَلَىٰ رَغْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ٱلْأَثْرِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ سُمُعَتَهُ بَيْنَ ٱلنَّاسِ كَانَتْ كَٱلذَّهَبِ ٱلْخَالِصِ.
كَانَ سَالِمٌ يُدِيرُ مَتْجَرًا صَغِيرًا فِي وَسَطِ ٱلْقَرْيَةِ، وَفِي هَذَا ٱلْمَتْجَرِ، كَانَ يَبِيعُ ٱلْحُبُوبَ وَٱلْمَوَادَّ ٱلْغِذَائِيَّةَ. ٱلْقَرْيَةُ بِنَسَمَاتِهَا ٱلرَّقِيقَةِ وَأَشْجَارِهَا ٱلْمُورِقَةِ كَانَتْ تَجْتَذِبُ ٱلزُّوَّارَ وَٱلْمُسَافِرِينَ، وَكَانَ مَتْجَرُ سَالِمٍ مَحَطَّ ٱلرِّحَالِ لِلْكَثِيرِ مِمَّنْ ٱجْتَازُوا ٱلْقَرْيَةَ.
فِي أَحَدِ ٱلصَّبَاحَاتِ ٱلْمُشْمِسَةِ، جَاءَ إِلَىٰ مَتْجَرِ سَالِمٍ رَجُلٌ غَرِيبٌ، بَدَا عَلَيْهِ أَثَرُ ٱلسَّفَرِ وَطُولُ ٱلتَّرْحَالِ. كَانَ ٱلرَّجُلُ يَرْتَدِي مَلَابِسَ بَسِيطَةً، وَتَحْمِلُ مَلَامِحُهُ تَعْبًا وَإِرْهَاقًا كَأَنَّهُ قَطَعَ ٱلْمَسَافَاتِ بَحْثًا عَنْ ٱلْأَمَانِ.
تَقَدَّمَ ٱلرَّجُلُ نَحْوَ سَالِمٍ وَقَالَ بِصَوْتٍ مُرْتَعِشٍ: "أَيُّهَا ٱلرَّجُلُ ٱلْفَاضِلُ، إِنَّنِي مُسَافِرٌ فِي طَرِيقٍ طَوِيلٍ، وَقَدْ نَفِدَ مَا كَانَ مَعِي مِنْ زَادٍ وَمَالٍ. أَلْتَمِسُ مِنْكَ عَوْنًا، أَنْ تَمْنَحَنِي شَيْئًا مِنْ ٱلطَّعَامِ وَشَيْئًا مِنَ ٱلْمَالِ، وَأَعِدُكَ أَنِّي سَأُوفِي بِمَا أَخَذْتُ عِنْدَمَا أَسْتَطِيعُ."
سَالِمٌ، بِحِكْمَتِهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ، أَنْصَتَ إِلَىٰ كَلِمَاتِ ٱلرَّجُلِ، وَرَأَىٰ فِي عَيْنَيْهِ شُعُورًا صَادِقًا. أَخَذَ مِفْتَاحَ مَتْجَرِهِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ ٱلرُّفُوفِ. قَالَ بِٱبْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ: "خُذْ مَا تَحْتَاجُهُ، يَا أَخِي. لَا تَقْلَقْ حَوْلَ ٱلْمَالِ. أَثِقُ أَنَّكَ سَتَرُدُّهُ لِي عِنْدَمَا تَسْتَطِيعُ."
شَكَرَ ٱلرَّجُلُ سَالِمًا بِعُمُقٍ، وَغَادَرَ ٱلْمَتْجَرَ وَقَلْبُهُ يَمْلَؤُهُ ٱلِٱمْتِنَانُ.
مَرَّتْ ٱلْأَيَّامُ، وَبَدَأَ أَهْلُ ٱلْقَرْيَةِ يُطْلِقُونَ ٱلْأَحَادِيثَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: "لِمَاذَا أَعْطَىٰ سَالِمٌ مَالَهُ لِرَجُلٍ لَا يَعْرِفُهُ؟" وَقَالَ آخَرُ: "هَذَا غَيْرُ حَكِيمٍ! ٱلرَّجُلُ لَنْ يَعُودَ!"
لَكِنَّ سَالِمًا كَانَ مُطْمَئِنًّا. لَمْ تَهُزَّهُ تِلْكَ ٱلْكَلِمَاتُ. كَانَ يُؤْمِنُ بِٱلْخَيْرِ فِي ٱلنَّاسِ، وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ٱلرَّجُلَ سَيَعُودُ.
فِي يَوْمٍ صَافٍ، بَيْنَمَا كَانَ سَالِمٌ يَفْتَحُ مَتْجَرَهُ، رَأَىٰ شَخْصًا يَقِفُ أَمَامَ ٱلْمَتْجَرِ. كَانَ هَذَا ٱلرَّجُلُ ٱلْغَرِيبَ نَفْسَهُ، وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ ٱلْإِجْهَادُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ إِبْتِسَامَةً تَعْكِسُ ٱلرَّاحَةَ ٱلنَّفْسِيَّةَ. تَقَدَّمَ نَحْوَ سَالِمٍ وَقَالَ: "أَيُّهَا ٱلرَّجُلُ ٱلْكَارِمُ، لَمْ أَنْسَ وُعُودِي. هَذَا هُوَ ٱلْمَالُ ٱلَّذِي ٱسْتَعَرْتُهُ مِنْكَ. لَمْ يَكُنْ سَهْلًا، وَلَكِنَّنِي وَفَيْتُ."
سَالِمٌ شَعَرَ بِٱلرَّاحَةِ. قَالَ: "لَمْ يَكُنْ ٱلْمَالُ هُوَ ٱلْمُهِمَّ. أَهَمُّ شَيْءٍ هُوَ ٱلْوَفَاءُ."
عَلِمَ أَهْلُ ٱلْقَرْيَةِ دَرْسًا عَظِيمًا. تُرَاهُ: مَاذَا يَكُونُ ٱلْوَفَاءُ إِلَّا أَجْمَلَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدِّمَهُ ٱلْإِنْسَانُ؟