ظِلُّ الفُصُولِ
في مَدينَةٍ صَغيرَةٍ يَكسُوها الضَّبابُ في الشِّتاءِ وتَذُوبُ تحتَ شَمسِ الصَّيفِ، كانَ يَعيشُ **سَلِيمٌ**، شابٌّ لم يَعرِفِ الاستِقرارَ في مِزاجِهِ، تَمامًا كما لم تَعرِفْهُ الفُصُولُ في مَدينَتِهِ. مُنذُ طُفولتِهِ، كانَ يَشعُرُ أنَّ رُوحَهُ تَتَغَيَّرُ معَ كُلِّ فَصلٍ، وكَأنَّهُ يَعيشُ أَربعَ حَيَواتٍ في عامٍ واحِدٍ.
معَ بَدَايَةِ الخَريفِ، كانَ يَشعُرُ بِثِقلٍ غَيرِ مَرئيٍّ على صَدرِهِ. أَوراقُ الشَّجَرِ المُتَسَاقِطَةُ كانَت تُذَكِّرُهُ بِالأَحلَامِ الَّتِي ذَهَبَتْ مَعَ الرِّيحِ، وبِالمَاضِي الَّذِي لَمْ يَرحَلْ تَمَامًا. كانَتْ لَيَالِيهِ طَوِيلَةً، يُحَدِّقُ في السَّقْفِ مُستَعيدًا ذِكرَيَاتٍ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُهَا، ولَكِنَّهُ لَمْ يَستَطِعْ نِسيَانَهَا.
وَحينَ يَهِلُّ الشِّتَاءُ، كانَ الانعِزالُ يُصبِحُ مَلاذَهُ. يَبتَعِدُ عَنِ الجَمِيعِ، يَتَوَارَى في غُرفتِهِ، لا يَجِدُ في العَالَمِ الخَارِجِيِّ سِوَى البَردِ وَالصَّمتِ. كانَ يَجِدُ في قَطَرَاتِ المَطَرِ عَزَاءً غَرِيبًا، ولَكِنَّهَا في الوَقتِ ذَاتِهِ تَزِيدُ شُعُورَهُ بِالوَحدَةِ. كُلَّ لَيلَةٍ، كانَ يَجلِسُ قُربَ النَّافِذَةِ، يُرَاقِبُ الأَضوَاءَ الخَافِتَةَ في الشَّارِعِ، يَتَسَاءَلُ: **"هَلْ يَشعُرُ أَحَدٌ بِهَذَا الفَرَاغِ غَيرِي؟"**
وَلَكِنَّ الرَّبِيعَ، رَغمَ جَمَالِهِ، لَمْ يَكُنْ يُبْثُ الحَيَاةَ في قَلبِهِ كَمَا يَفعَلُ مَعَ الأَشجَارِ. بَالعَكسِ، كانَ يَشعُرُ بِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الجَمِيعِ، كَأَنَّ الجَمِيعَ يُزهِرُونَ إِلَّا هُوَ. كانَتْ ضَحِكَاتُ النَّاسِ في الحَدَائِقِ تُصِيبُهُ بِنَوعٍ مِنَ الغُربَةِ، كَأَنَّهُ عَالِقٌ في زَمَنٍ مُختَلِفٍ.
أَمَّا الصَّيفُ، فكانَ فَصلَهُ الأَكثَرَ تَعقِيدًا. حَرَارَةُ الشَّمسِ كانَتْ تَزِيدُ اضطِرَابَهُ، وَكَأَنَّهَا تُحرِقُ أَفكَارَهُ مَعَهَا. كانَ يَرَى العَالَمَ مِنْ حَولِهِ مَليئًا بِالحَيَاةِ وَالفَرَحِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَستَطِعِ الِانسِجَامَ. كانَ يَشعُرُ كَأَنَّهُ ضَيفٌ غَيرُ مَدعُوٍّ إِلَى حَفلَةٍ صَاخِبَةٍ، يُحَاوِلُ الِابتِسَامَ، وَلَكِنَّهُ يَعرِفُ أَنَّ رُوحَهُ لَمْ تَتْبَعْ جَسَدَهُ إِلَى هَذِهِ البَهجَةِ المُفتَعَلَةِ.
في أَحَدِ الأَيَّامِ، وَبَينَمَا كَانَ يَجلِسُ وَحِيدًا عَلَى مَقهَى صَغِيرٍ مُطِلٍّ عَلَى حَدِيقَةٍ، اقتَرَبَتْ مِنهُ فَتَاةٌ تَحمِلُ كِتَابًا في يَدِهَا. نَظَرَتْ إِلَيهِ وَقَالَتْ:
**"أَشعُرُ وَكَأَنَّكَ تُفَكِّرُ في شَيءٍ بَعِيدٍ جِدًّا، مِثلِي تَمَامًا."**
تَفَاجَأَ بِنَبرَةِ صَوتِهَا الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُجَامَلَةً، بَلِ اعتِرَافًا. لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، شَعَرَ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَفهَمُهُ دُونَ أَنْ يَشرَحَ. لَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ لِلكَلِمَاتِ، لِأَنَّ نَظَرَاتِهَا أَخبَرَتْهُ أَنَّهَا تَعرِفُ جَيِّدًا شُعُورَ أَنْ يَكُونَ المَرْءُ غَرِيبًا حَتَّى في قَلبِ وَطَنِهِ.
وَمُنذُ ذَلِكَ اليَومِ، بَدَأَ يُدرِكُ أَنَّ الفُصُولَ لَيسَتْ مُجَرَّدَ تَغَيُّرٍ في الطَّقسِ، بَلْ هِيَ مَرَاحِلُ يَمُرُّ بِهَا، وَأَنَّهُ لَيسَ وَحِيدًا في هَذَا الشُّعُورِ. رُبَّمَا لَنْ يَتَغَيَّرَ أَبَدًا، وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ مَعرِفَةِ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَعبُرُ نَفسَ الجِسرِ المُظلِمِ، جَعَلَ البَردَ أَقَلَّ قَسوَةً، وَالصَّيفَ أَقَلَّ ضَيَاعًا.