ثورة الكراسي في الحافلة العجوز

ثورة الكراسي في الحافلة العجوز

ثورة الكراسي في الحافلة العجوز
ثورة الكراسي في الحافلة العجوز

في إحدى الحافلات العتيقة التي جابت الشوارع لسنوات طويلة، كان هناك عالم خفي من الأحاديث التي لم يسمعها البشر من قبل. لم تكن الكراسي مجرد مقاعد خشبية أو جلدية، بل كانت أرواحًا تتحدث، تتهامس، وأحيانًا... تتشاجر!

الفصل الأول:

في صباح يوم صاخب، وبينما كانت الحافلة تستعد للانطلاق، انطلقت همسات متوترة بين الكراسي، ثم تحولت إلى نقاش حاد كعادتها اليومية.
الكرسي الأمامي، بثقة المعتاد على الأضواء، قال:
— "أنا أول ما تقع عليه عيون الركاب، أرى الطريق قبل أي أحد، وأشعر بنسيم الصباح قبلكم جميعًا! إن كان لأحد الحق في الفخر، فهو أنا!"
قهقه الكرسي القريب من النافذة وقال بازدراء:
— "يا لك من ساذج! ما نفع رؤيتك للطريق إن كنتَ تهتز مع كل حفرة وصدمة؟ أما أنا، فأمنح الركاب فرصة الهروب من واقعهم عبر تأمل المناظر. أراهم يغرقون في أحلامهم، يتأملون الشوارع، المطر، ضوء الشمس... إنهم يفضلونني بلا شك!"
قاطعه كرسي المنتصف بصوت واثق:
— "كفى أيها الحالمون! أنا المكان المثالي، لا اهتزاز ولا شمس تحرق، ولا برد يقشعر الأبدان. جميع الركاب يسعون إليّ، يجلسون مطمئنين، ينامون دون أن يقلقوا من الالتصاق بالنافذة الباردة أو التعرض لدوار الطريق! أنا ملك الحافلة بلا منازع."
من الخلف، صدر صوت ساخر مليء بالاستهزاء:
— "يا لكم من بائسين! أنتم جميعًا مجرد ظلال لما أمثّله أنا! أنا القلب النابض للحافلة، حيث تدور المؤامرات، وتُحكى الحكايات، وتُخفى أسرار المراهقين. صرخات الضحك، الموسيقى المكتومة في سماعات الركاب، الأحاديث الهمسة عن الحب والخيانات… كلها تحدث عندي! من أنا؟ الكرسي الخلفي، بالطبع!"
في زاوية الحافلة، كان هناك كرسي مهترئ، أصدر أنينًا متحشرجًا قبل أن يقول بصوت يائس:
— "كل هذا التفاخر، وأنا هنا منسي! كل يوم يجلس أحدهم عليّ، ثم ينهض متذمرًا: 'هذا الكرسي مكسور!' لماذا لا يفكر أحد في إصلاحي؟! لماذا أنا الوحيد الذي يُعامل كأنني لا أستحق الاهتمام؟!"
أما الكرسي القريب من الباب، فقد صرخ ساخطًا:
— "وأنتم تتجادلون حول الراحة والمجد، أنا الوحيد الذي يعاني! الجميع يركلني أثناء النزول، البعض يستند عليّ بلامبالاة، والآخرون يقفون بجانبي متذمرين لأنهم لم يجدوا مقعدًا. ليتني كنت في المنتصف أو حتى مكسورًا، أفضل من هذه الإهانة!"

وسط هذا الجدل المحتدم، كانت الحافلة تستعد للانطلاق، لكن فجأة، صدر صوت قوي قاطع كل الأصوات.
كان السائق، الذي ضرب مقود الحافلة قائلاً بانزعاج:
— "يا لكم من كراسي مزعجة! لو استثمرتم هذه الطاقة في جعل الرحلة أكثر هدوءًا، لكنّا قد وصلنا قبل الموعد بدلًا من تأخري اليومي بسبب ضجيجكم!"
ساد الصمت للحظة، ثم تعالت ضحكات الركاب وهم يتهامسون عن غرابة هذه الحافلة. أما الكراسي، فقد شعرت بالإحراج للحظة... لكنها كانت تعلم جيدًا أن جدالاتها لن تنتهي أبدًا، طالما استمرت العجلات في الدوران.

الفصل الثاني: انتفاضة الكراسي


في الليلة التالية، وبعد أن أُغلقت أبواب الحافلة وهدأت ضوضاء الشوارع، بدأ همس جديد يتردد بين الكراسي. كانوا جميعًا يشعرون بشيء غريب في أجواء تلك الليلة. الكرسي الأمامي كان أول من تحدث، بنبرة جادة هذه المرة:
— "لقد سئمتُ هذا الوضع! كل يوم، أتحمل المسؤولية الأكبر، أتعرض للاهتزازات، وأشاهد الطريق الوعر، وفي النهاية لا أحد يقدّرني!"
أجابه كرسي النافذة، لكنه لم يكن ساخراً هذه المرة، بل بدا غارقًا في التفكير:
— "وأنا أيضاً… صحيح أنني أمنح الركاب لحظات شاعرية، لكنني سئمتُ الأشخاص الذين ينامون عليّ ويتكئون دون اكتراث! ربما حان الوقت لنفكر في تغيير حقيقي."
رفع كرسي المنتصف صوته، وكأنه يخطب في ساحة عامة:
— "نحن نعمل بلا راحة، نتحمل الركاب يومًا بعد يوم، ومع ذلك، لا أحد يعيرنا اهتمامًا! حتى الكرسي المكسور لم يفكر أحد في إصلاحه. لماذا لا نقوم بثورة؟!"
عند سماع كلمة "ثورة"، تحمّس الكرسي الخلفي، وضرب نفسه بالحائط قائلاً بحماس:
— "ثورة؟! أخيرًا شيء مثير يحدث هنا! أنا معكم بكل تأكيد! لكن... ما هي خطتنا؟"
هنا، تنهد الكرسي المكسور قائلاً بأسى:
— "الخطة بسيطة جدًا… لنتوقف عن أداء عملنا! إذا رفضنا السماح للركاب بالجلوس، فسوف يدركون قيمتنا أخيرًا!"
ساد الصمت للحظات، ثم تعالت الهتافات بين الكراسي:
— "نعم! حان وقت الانتقام!"

الفصل الثالث: الفوضى في الصباح


في صباح اليوم التالي، عندما صعد الركاب كالمعتاد، فوجئوا بأن الكراسي كانت... ترفضهم!
كلما حاول أحد الجلوس، كان الكرسي يهتز أو يميل فجأة إلى الأمام! كان كرسي النافذة يتحرك ببطء حتى لا يتمكن أحد من الاتكاء عليه، أما كرسي المنتصف، فقد أصبح فجأة غير مريح على الإطلاق، وكأن وسائده اختفت!
أما الكرسي الخلفي، فقد بدأ يصدر أصوات طقطقة مرعبة كلما حاول أحد الجلوس عليه، مما دفع الركاب للوقوف في منتصف الحافلة مذعورين. حتى الكرسي المكسور، بدلاً من أن يكون عديم الفائدة، صار يقذف أي شخص يجلس عليه إلى الأمام وكأنه يُنتقم لنفسه!
بدأ الركاب في التذمر، بعضهم اشتكى، والبعض الآخر قرر النزول من الحافلة والبحث عن وسيلة نقل أخرى. السائق لم يفهم ما يحدث، ضرب المقود بيده وقال بصوت مرتفع:
— "ما بكم اليوم؟ اجلسوا وانتهى الأمر!"
لكن أحد الركاب رد غاضبًا:
— "وكيف نجلس يا عم؟ الكراسي وكأنها مسكونة بالأشباح!"
مرّت لحظات من الفوضى، حتى قرر السائق إيقاف الحافلة جانبًا، ثم ضرب أحد الكراسي بيده قائلاً:
— "ما مشكلتكم اليوم؟!"
وهنا، ساد صمت غريب... شعر السائق بشيء غير مألوف. للحظة، خُيّل إليه أن الحافلة نفسها تهمس بشيء ما. تنحنح قليلاً وقال:
— "هل تريدون شيئًا؟!"
ارتجّت الحافلة للحظة، ثم صدر صوت خافت، لكنه واضح تمامًا. كان صوت الكرسي الأمامي، وهو يقول:
— "نعم، نريد الاحترام!"
تسمرت عيون السائق، ثم نظر إلى الكراسي بدهشة وهو يهمس لنفسه:
— "أنا... أكاد أُجن."

الفصل الرابع: السلام بين الكراسي والبشر

بعد لحظات من الذهول، أدرك السائق الحقيقة. لم تكن الحافلة مجرد مركبة، ولم تكن الكراسي مجرد قطع أثاث، بل كانوا عمالاً صامتين، يعانون بصمت.
تنهد السائق وقال بلطف:
— "أنا آسف، لم نكن نعلم أنكم تعانون. سأخبر الإدارة أن الحافلة تحتاج إلى صيانة، وسأطلب من الركاب احترامكم أكثر."
ساد الصمت للحظة، ثم همس الكرسي المكسور بحذر:
— "وهل... سيتم إصلاحي أخيرًا؟"
ضحك السائق وقال:
— "بالطبع! ستكون أول من يُصلح."
شعرت الكراسي أخيرًا بالراحة، وتوقفت عن العبث بالركاب. جلست الأجساد المتعبة، وبدأت الحافلة بالتحرك بسلاسة لأول مرة منذ سنوات.
ومنذ ذلك اليوم، تعلم السائق والركاب درسًا مهمًا... حتى الأشياء الصامتة، قد يكون لها صوت إذا استمعنا جيدًا.

الفصل الخامس: عهد جديد في الحافلة العجوز

بعد تلك الحادثة الغريبة، لم تعد الحافلة كما كانت من قبل. لم يكن الأمر مجرد "إصلاح"، بل تحول جذري في العلاقة بين الركاب والكراسي.
في الصباح التالي، دخل السائق إلى الحافلة بابتسامة، ربت على أحد الكراسي قائلاً:
— "صباح الخير، يا رفاق!"
تعالت همسات خفيفة بين المقاعد، وكأنها ترد التحية، ثم هدأ كل شيء بسرعة حتى لا يلاحظ الركاب.
عندما بدأ الركاب بالصعود، كانوا أكثر حذراً هذه المرة. لم يعد أحد يركل الكرسي القريب من الباب أثناء النزول، بل صار الناس يمرون بلطف. ولم يعد الركاب يتذمرون من الكرسي الأمامي أو يشتكون من الهزات، بل صار بعضهم يجلس عليه بتقدير أكبر، حتى أنهم أخذوا يمدحون إطلالته على الطريق.
أما كرسي النافذة، فقد عاد إلى وظيفته المفضلة، يمنح الركاب لحظات من الشرود والتأمل، لكنه لاحظ أن الناس صاروا أكثر احتراماً، فلم يعودوا ينامون عليه بلا مبالاة أو يلطخون زجاج النافذة.
كرسي المنتصف؟ كان أكثر ارتياحاً، لم يعد يتحمل ضغط الجالسين وحده، فقد صار الركاب يتوزعون بعدل، بل وحتى الكرسي الخلفي، بطل الضوضاء القديمة، لاحظ أن بعض المراهقين صاروا أكثر هدوءاً، وكأنهم شعروا فجأة أن للحافلة حياة خاصة بها.
أما الكرسي المكسور...
فقد تم إصلاحه أخيراً! لم يعد منبوذاً، لم يعد يُعامل وكأنه لا قيمة له. عندما جلس عليه أول راكب بعد الإصلاح، كاد الكرسي أن يبكي من الفرح، لكنه تماسك حتى لا يثير الشبهات.

الفصل السادس: أسرار جديدة في قلب الحافلة


مرّت الأيام، والحافلة تواصل رحلاتها كما كانت دائماً، لكن شيئاً لم يعد كما كان. لم يكن السائق الوحيد الذي بدأ يسمع أصوات الكراسي، بل هناك راكب واحد، رجل مسن كان دائم الركوب، بدأ يشعر بأن الحافلة لم تكن "مجرد حافلة".
في أحد الأيام، وبينما كانت الحافلة تمضي في طريقها، كان ذلك الرجل العجوز يربت على كرسي النافذة بحنان، ثم همس بصوت خافت لا يكاد يُسمع:
— "أعرف أنكم أحياء... أنا أيضاً، كنت أسمعكم عندما كنت شاباً."
سادت لحظة من الصمت، ثم اهتز كرسي النافذة بخفة، وكأنه يرد عليه بابتسامة خفية.
ابتسم الرجل وقال:
— "لا تقلقوا، سأحمل سركم معي..."
ومنذ ذلك اليوم، بقي السر محفوظاً بين الحافلة، وكراسيها، وذلك الرجل العجوز...
أما الركاب؟ فقد واصلوا رحلاتهم اليومية، غير مدركين أن الحافلة التي يركبونها كانت ذات يوم ساحة لثورة هادئة... ثورة لم يكن فيها دماء، بل فقط أصوات صامتة أخيراً تم سماعها.

الفصل السابع: رحلة الأحلام

مرت الأيام، والحافلة العجوز لم تعد فقط وسيلة نقل، بل أصبحت جزءًا من حياة الناس بطريقة لم يتخيلها أحد.
ذات صباح مشرق، وبينما كانت الحافلة تتهادى في شوارع المدينة، شعر الجميع أن هناك شيئًا مختلفًا. كان الركاب أكثر راحة، والكراسي لم تعد تتذمر، بل كانت سعيدة لأن الجميع أصبح يعاملها بلطف واحترام. حتى السائق، الذي كان في السابق متعجلاً، صار يستمتع برحلاته، ويردد الأغاني القديمة أثناء القيادة.
في ذلك اليوم، صعدت إلى الحافلة فتاة صغيرة مع والدتها. كانت الطفلة تحمل دفتراً صغيراً وأقلام تلوين، وما إن جلست قرب النافذة حتى بدأت ترسم.
مرّت دقائق قليلة قبل أن تهمس الطفلة لوالدتها:
— "ماما، أشعر أن هذه الحافلة سعيدة!"
ضحكت الأم وهزّت رأسها، لكن كرسي النافذة شعر بسعادة غامرة. أخيرًا، هناك من لاحظ!
نظر الكرسي إلى رسمة الفتاة، فوجد أنها ترسم الحافلة، ولكنها لم تكن رسمة عادية... كانت الحافلة مبتسمة!
أخذت الطفلة تلون النوافذ باللون الأزرق الهادئ، والعجلات بلون أسود قوي، بينما جعلت الكراسي ملونة وكأنها تبتسم. وعندما أنهت رسمتها، رفعتها في الهواء قائلة بفخر:
— "انظري يا ماما! هذه الحافلة سعيدة لأنها تحب الركاب، والركاب يحبونها أيضاً!"
كان ذلك اليوم مميزًا، ليس فقط لأن الطفلة لاحظت سعادة الحافلة، ولكن لأن الركاب جميعًا رأوا الرسمة وابتسموا. حتى السائق، عندما نظر إليها، قال ضاحكًا:
— "يبدو أن أحدهم يفهم سرّ الحافلة!"
مرت اللحظات بلطف، وبدا أن الجميع أكثر راحة من أي وقت مضى. لكن الكراسي وحدها كانت تعرف الحقيقة... فقد تحققت أمنيتها أخيرًا: أصبحت الحافلة مكانًا يملؤه الدفء، وأصبح الركاب يعاملونها كما تستحق.
وعندما حان وقت نزول الطفلة، وضعت يدها بلطف على الكرسي وقالت بصوت هامس:
— "شكرًا لأنك كنت مريحًا لي اليوم!"
للحظة، شعر الكرسي أنه أخفّ من الهواء، وكأنه يستطيع الطيران من الفرح.

الفصل الأخير: ولادة جديدة

في أحد الأيام، جاءت لجنة الصيانة إلى الحافلة، وقرروا أنها أصبحت قديمة جدًا، وحان وقت استبدالها بحافلة جديدة. عندما سمع السائق الخبر، شعر بالحزن، لكن الكراسي كانت هادئة بشكل غريب.
في الليلة الأخيرة قبل استبدال الحافلة، همست الكراسي لبعضها البعض:
— "لقد حققنا حلمنا... عشنا حياة سعيدة، والآن حان وقت الراحة."
لكن المفاجأة كانت في الصباح التالي.
لم تُرسل الحافلة إلى ساحة الخردة كما كان متوقعًا، بل قررت إدارة المدينة تحويلها إلى مكتبة متنقلة للأطفال!
عندما سمع السائق الخبر، لم يستطع كبح دموع الفرح. أما الكراسي، فقد شعرت وكأنها وُلدت من جديد. لم تعد تتحمل الركاب المتعجلين، بل أصبحت تستقبل الأطفال الحالمين، الذين يجلسون عليها ويقرؤون القصص، يضحكون، ويحلمون بمستقبل مشرق.
وأما الطفلة صاحبة الرسم، فقد جاءت بعد أيام إلى المكتبة المتنقلة، وعندما رأت حافلتها العزيزة، احتضنت أحد الكراسي قائلة:
— "كنتُ أعلم أنكِ مميزة!"
وهكذا، انتهت رحلة الحافلة في الشوارع، لكنها بدأت رحلة أجمل... رحلة مليئة بالكتب، والضحكات، والأحلام الصغيرة التي تكبر يومًا بعد يوم.
أبو ياسر المغربي
أبو ياسر المغربي
تعليقات