دموع على ضفاف دجلة
المشهد الأول: نذر العاصفة
بغداد، عام 1258م. المدينة تغفو تحت سماء ملبدة بالغيوم، بينما أهلها يمارسون حياتهم اليومية غير مدركين أن القدر يخبئ لهم كارثة. الأزقة تضج بالحياة، الأسواق تعج بالباعة والمشترين، والأطفال يركضون بين الممرات الضيقة غير واعين للكارثة التي تلوح في الأفق.
في أحد البيوت المطلة على نهر دجلة، تجلس "زينب" ذات السبعة عشر عامًا بجوار نافذة صغيرة، تراقب انعكاس السماء الرمادية على سطح الماء. في الداخل، يجلس والدها، العالم الجليل "عبد الرحمن البغدادي"، خلف مكتب خشبي عتيق، يخط بيده المرتعشة آخر أبحاثه في علوم الفلك، محاولًا أن يسبق الموت بتسجيل كل ما يعرفه قبل أن تحل الفاجعة. بجانبه يقف "حسان"، شقيقها الأصغر ذو العشرة أعوام، يحمل دفتراً صغيرًا ويحاول تقليد والده في الكتابة.
يقطع صمت الغرفة أصوات طبول بعيدة، خافتة لكنها ثقيلة كأنها نذر شؤم. تتوقف يد عبد الرحمن عن الكتابة، ويرتفع رأسه ببطء. يتبادل نظرات القلق مع زينب، التي تشعر بانقباض غريب في صدرها. "هل اقتربوا؟" تسأل بصوت مرتجف، لكنه لا يجيب. ينهض ويتجه إلى النافذة، حيث يرى الدخان يتصاعد من أطراف المدينة. في تلك اللحظة، يدرك أن بغداد على وشك أن تسقط.
المشهد الثاني: سقوط الحلم
مع شروق شمس اليوم التالي، لم يكن في بغداد صباح، بل كانت السماء مغطاة بسحب سوداء من الدخان المتصاعد، ورائحة الموت تفوح في كل مكان. اجتاحت الجحافل المغولية أسوار بغداد، ولم تكن المدينة مستعدة لمقاومة الطوفان.
في أحد الأزقة، يركض عبد الرحمن ممسكًا بيد زينب بيد، وحسان باليد الأخرى، يحاول الوصول إلى أي مخرج قبل أن يُطبق المغول قبضتهم على المدينة. أمامهم، جثث متناثرة، دماء تسيل في الشوارع، وصيحات استغاثة تتلاشى وسط ضجيج السيوف والخناجر. تتوقف العائلة للحظة عندما يرون قافلة من النساء والأطفال يُساقون كالقطعان نحو ساحة عامة، حيث يتم فصل الرجال عن النساء. يحاول عبد الرحمن الابتعاد، لكن فجأة، يظهر أمامهم جندي مغولي ممتطٍ حصانه، يحمل رمحًا ملطخًا بالدماء.
بصوت حاد، يأمرهم بالتوقف. يقف عبد الرحمن أمام أطفاله، يرفع يديه مستسلمًا، لكن قلبه يصرخ من القهر. "خذونا أسرى، لكن دعوا الأطفال وشأنهم،" يقول بصوت متهدج، لكن الجندي يضحك ساخرًا قبل أن يغرس رمحه في صدره. تتسع عينا زينب، ويتجمد الزمن للحظة، ثم تنطلق صرختها تخترق الضجيج. يسقط جسد والدها بلا حراك، ويده لا تزال ممسكة بيدها التي ترتجف.
تتراجع للخلف، تحتضن حسان المرتجف بجانبها، لكنها لا تملك الوقت للحداد. يُمسك بها جنود آخرون، يجذبونها بعنف بعيدًا عن جسد والدها. تنظر إليه للمرة الأخيرة، بينما تختفي صورته وسط الغبار واللهب.
حسان، الذي سقط على الأرض، يزحف نحو جثة والده محاولًا إيقاظه، لكن صوتًا آخر يعلو فوق بكائه – صوت جندي يقترب منه. يركض بكل ما أوتي من قوة، يختبئ خلف أحد الجدران المهدمة، بينما يُسحب جسد زينب بعيدًا نحو المصير المجهول.
المشهد الثالث: بين الأنقاض
زينب تُساق إلى قصر الحاكم المغولي مع مجموعة من الأسرى. ترتعد قلوبهم وهم يُدفعون داخل القاعة الضخمة حيث يسطع ضوء المشاعل على الوجوه المتعبة. تتطلع زينب حولها بحثًا عن أي مخرج، لكن الأبواب محكمة الإغلاق. لم تكن بغداد التي تعرفها، بل أصبحت مدينة أشباح.
صوت القائد المغولي يعلو وسط الصمت، ينظر إلى الأسرى بعينين باردتين كالجليد. يتم جر الرجال واحدًا تلو الآخر، وصدى صرخاتهم يرن في الأرجاء. زينب تقاوم عندما يحاول أحد الحراس سحبها، لكنها تُصفع بعنف. تتذوق طعم الدم في فمها، لكنها ترفع رأسها بعزة. في عينيها لمعة رفض، وكأنها ترفض الاستسلام حتى في أحلك اللحظات.
المشهد الرابع: آخر الأوراق
في أحد الأزقة المهدمة، كان "حسان" يزحف بين الأنقاض، محاولًا البقاء بعيدًا عن أعين المغول. جسده النحيل يرتجف، ودموعه تجف على خديه. وسط الركام، تقع عيناه على مخطوطة ممزقة، يعرفها على الفور – إنها مخطوطة والده! تتسارع دقات قلبه، يحملها كما لو كانت كنزًا ثمينًا.
يسير بين الأزقة المدمرة، يحتمي بالظلال، يبحث عن أي مكان آمن. يسمع صرخات قادمة من ساحة قريبة، يرى من بعيد أجسادًا تُساق إلى الموت، بينهم علماء بغداد الذين رفضوا الاستسلام. يحبس أنفاسه، يلتصق بالحائط، يحاول أن يتمالك نفسه. لكن داخله، نار الغضب تشتعل.
المشهد الخامس: قيود الأسر
في قصر الحاكم المغولي، زُج بزينب مع عشرات النساء في غرفة مظلمة ذات نوافذ عالية تمنع عنهم أي أمل في الهروب. أصوات البكاء تملأ المكان، بينما يجلسن متكاتفات، لا يعرفن مصيرهن. زينب، رغم ألمها وفقدانها، كانت تقاوم اليأس. لم يكن في قلبها إلا الغضب والرغبة في النجاة. كانت تحاول تهدئة النساء الأخريات، تخبرهن بأن الصبر هو السبيل الوحيد. لكنها كانت تعلم أن الصبر وحده لا يكفي.
المشهد السادس: طيف الانتقام
في الأزقة المدمرة، كان حسان يراقب من بعيد تحركات المغول، يدرس طرقاتهم، يحفظ أماكن تمركزهم. لم يعد طفلًا خائفًا، بل باتت عيناه تحملان بريقًا من العزم. قرر أنه لن يترك بغداد دون أن ينقذ أخته. بدأ يتعاون مع بعض الناجين لوضع خطة للهروب، ولم يكن الانتظار خيارًا.
المشهد السابع: فجر جديد
حينما بدأ القمر بالزوال، كان الوقت قد حان. استطاع حسان بمساعدة بعض الناجين التسلل إلى القصر حيث احتُجزت زينب. تسللا معًا في الظلام، متجنبين الحراس حتى وصلا إلى بوابة المدينة.
على أطراف بغداد، حينما بزغت الشمس على المدينة المحترقة، كانت زينب وحسان يودعان ماضيهما. لم تكن هذه نهاية المعركة، لكنها كانت بداية جديدة، حيث حمل حسان مخطوطة والده وزينب قلبًا لم يعد يخشى شيئًا.
انطلقا بعيدًا، عازمين على أن يعيدا يومًا ما ما سُلب منهم.