بر الوالدين
![]() |
بر الوالدين |
المشهد الأول: العودة إلى الماضي
كان الليل قد بدأ يُسدل ستاره، يغطي الأزقة الضيقة بظلام خفيف تتخلله أضواء المصابيح المعلقة بين الجدران العتيقة. كان "إياد" يسير بخطوات مترددة، يجر خلفه ماضيًا ثقيلًا، ويقترب من باب بيت لم يدخله منذ سنوات. لم يكن مجرد منزل، بل كان شاهدًا على قراراته الخاطئة، على عناده حين ظن أن بإمكانه الانفصال عن جذوره والعيش وفق ما يراه مناسبًا.
مرّر يده على خشب الباب القديم، تلمّس النتوءات التي حفظ تفاصيلها منذ طفولته، كأنه كان يبحث عن لحظة دفء وسط كل هذا البرد الداخلي. لم يكن متأكدًا مما سيجده خلفه، هل سيجد والدًا غاضبًا؟ أم رجلاً أُنهك من انتظاره؟ كانت الأسئلة تدور في رأسه بلا إجابة، لكنه كان يعلم شيئًا واحدًا فقط: لم يعد بإمكانه الهرب أكثر.
المشهد الثاني: اللقاء الصامت
حين طرق الباب، انتظر لحظات بدت له دهورًا. ثم انفتح الباب ببطء، كأن الزمن هو من يرحب به، لا شخص آخر. وقف هناك، ينظر إلى الداخل، إلى ملامح والده التي تغيرت بفعل العمر، لكن شيئًا فيها ظل كما هو—نظرة لم تخفت رغم السنين، لم تتغير رغم الألم.
كان الرجل العجوز جالسًا على كرسي خشبي قديم، ظهره محدودب قليلاً، لكنه لم يكن ضعيفًا كما تخيّل إياد. كان يحمل في صمته قوة لم يقدر ابنه على مواجهتها. لم يصرخ، لم يعاتبه، لم يسأله أين كان كل تلك السنوات. فقط نظر إليه وابتسم… ابتسامة غامضة، تحمل مرارة الفقد، لكنها أيضًا كانت تحمل شيئًا آخر لم يتوقعه إياد: الغفران.
بصوت هادئ، كأنما يلقي عليه تحية عادية، قال العجوز: "عدتَ؟"
المشهد الثالث: اعتراف داخلي
شعر إياد أن الكلمات علقت في حلقه، لكنه لم يكن بحاجة لها. تقدم ببطء، ثم جلس عند قدمي والده، كما كان يفعل طفلاً، حين كان هذا الرجل نفسه يسرد له القصص قبل النوم، ويربت على رأسه إذا ما أُصيب بكابوس. لكن هذه المرة، لم يكن بحاجة إلى قصة قبل النوم، بل كان بحاجة إلى يقظة.
كان هناك مسافة بينهما، لكنها لم تكن جسدية، بل كانت فاصلًا زمنيًا من الغياب، من العناد، من الأخطاء التي تكدست حتى باتت مثل جبل ثقيل جثم على صدره. كيف يُصلح شيئًا كُسر منذ سنوات؟ كيف يعيد وصل ما انقطع؟ هل الغفران يمكن أن يُطلب أم أنه يُمنح بلا شروط؟ كان يعرف أنه تأخر، لكنه لم يكن يدرك حتى تلك اللحظة أن العقوق لم يكن مجرد خطيئة تجاه والده، بل كان أيضًا خيانة لنفسه، لجزء منه ظل معلقًا في هذا البيت، في هذا الرجل.
المشهد الرابع: فلسفة البر
بعد لحظات من الصمت، تنهد والده بهدوء، ثم قال بصوت خافت لكنه محمل بالمعاني:
"البر ليس كلمة تقال، بل ظل لا يفارقك حتى وإن حاولت الهروب منه… هو اليد التي لا تتركك حتى عندما تتركها."
تردد صدى الكلمات في عقل إياد كضربة جرس أيقظته من غفلته. لم يكن البر مجرد واجب اجتماعي، لم يكن صدقة تُمنح بين الحين والآخر، ولا مجرد اتصال هاتفي في المناسبات. كان البر علاقة لا تقطعها المسافات، شعور لا يبهت مع الزمن، يد لا تفلتك حتى لو أفلتّها أنت.
رفع إياد عينيه نحو والده، ورأى فيها ما لم يره من قبل—رحمة، تفهّم، وربما… فرصة أخرى. أدرك حينها أن البر ليس فعلاً يقدَّم للأحياء فقط، بل هو أيضًا تصحيح لمسار النفس، ترويض لغرور الإنسان الذي يظن أنه مكتفٍ بذاته.
المشهد الخامس: بداية جديدة
لم يكن هناك داعٍ للكثير من الكلام، فقد فُهم كل شيء دون حاجة إلى شرح. مدّ والده يده، ولم يتردد إياد لحظة في الإمساك بها. لم تكن مجرد يدٍ عجوزة ضعيفة، بل كانت اليد التي ظلت ممدودة له حتى حين تجاهلها. كانت اليد التي رفعته صغيرًا، والتي انتظرته كبيرًا.
في تلك اللحظة، شعر إياد أن شيئًا داخله قد أُصلح. لم يكن العقوق هو نهاية الطريق، بل كان مجرد خطأ يمكن تصحيحه، وكان البر، في جوهره، ليس مجرد أعمال تُؤدى، بل رابطة لا تنكسر، حتى لو حاول الإنسان كسرها.
نظر إلى والده، ثم قال بصوت يشوبه الخجل لكنه محمل باليقين: "لن أرحل بعد اليوم."
ابتسم العجوز، وربت على يده مجددًا، كما لو كان يعلم ذلك منذ البداية.
المستفاد من القصة
1. البر لا يتوقف على الزمن:
يمكن للإنسان أن يعود في أي لحظة ليصلح أخطاءه، فالأهم هو الإحساس بالمسؤولية تجاه الوالدين، مهما طال الغياب.
2. الوالدان يغفران بلا شروط:
الحب الأبوي متجذر في الرحمة، فهو لا يحتاج إلى اعتذارات مطولة، بل إلى أفعال تثبت التقدير والوفاء.
3. البر ليس مجرد كلمة:
لا يُختزل بر الوالدين في كلام معسول أو زيارات متقطعة، بل هو رابط روحي، سلوك يومي، ويد لا يجب أن تُفلت.
4. الهروب لا يلغي الحقيقة:
مهما حاول الإنسان أن يبتعد عن جذوره، سيظل بحاجة إلى والديه، لأنهما الأساس الذي يقوم عليه كيانه.
5. العقوق ليس مجرد خطأ تجاه الوالدين، بل تجاه النفس أيضًا:
عندما يتجاهل الإنسان بر والديه، فإنه يكسر شيئًا في داخله أيضًا، ويفقد جزءًا من ذاته.
6. الغفران هو البداية الجديدة دائمًا:
حتى لو أخطأ الإنسان، فإن الفرصة للإصلاح قائمة دائمًا، والأهم هو المبادرة قبل فوات الأوان.
7. البر ليس بالمقابل، بل هو واجب:
لا ينتظر الوالد مكافأة على حبه، لكنه يستحق أن يُحاط بالرحمة والعناية، ليس لأن ذلك يُطلب منه، بل لأنه حق له.
✨ القصة تعلّم أن العلاقة بين الوالدين والأبناء ليست مجرد التزامات، بل هي رابطة روحية، قائمة على الحب، الاحترام، وعدم التخلي عن اليد التي حملتنا يومًا.