الكلب الذي تخلى عن عرشه
![]() |
الكلب الذي تخلى عن عرشه |
كان الأخوة الثلاثة—ناب، ريحان، وسادن—يعيشون في واحة من الأمان، تحت جناح والديهم، الحكيم باسل والحنونة وردة. لكن السلام لم يكن سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها اضطرابات غير مرئية، كالدوامات التي تحرك المياه الساكنة.
في إحدى الليالي، حيث كان القمر يلقي بريقه الفضي على المروج، جلس باسل أمام أبناءه وقال بصوت متهدج:
"كلب لا يعرف ذاته، لا يعرف طريقه. الأيام القادمة ستختبر قلوبكم، وستحمل لكم خيارًا، فاختاروا بحكمة."
لم يفهم الإخوة كلماته حينها، لكن الزمن كشف معناه بطريقة لم يتوقعها أحد.
الانقسام الأول جاء فجأة.
ناب، الأقوى بين الإخوة، رأى أن القوة هي السبيل الوحيد للنجاة. قرر أن يقود الأسرة بطريقته، أن يفرض السيطرة قبل أن يُفرض عليه الخضوع.
أما ريحان، فقد كان حالمًا، يرفض العنف، ويرى أن الحياة أكبر من مجرد صراع على الطعام والمأوى. كان يتبع العصافير بنظراته، وكأنه يتمنى لو كان واحدًا منها.
أما سادن، الأصغر، فكان مزيجًا منهما، لكنه ظل صامتًا، يراقب بصمت الحكيم.
حين مرض باسل، وجد ناب الفرصة ليأخذ القيادة، فرض قوانينه بالقوة، وأخضع من اعترضه. أما ريحان، فكان صمته مقاومة، ونظرته الساخرة كانت سلاحه الوحيد. وفي لحظة واحدة، قرر أن يرحل، أن يختار طريقه بنفسه.
في صباح بارد، وقف على التلة المطلة على الغابة، وقال لسادن:
"أخي، العالم واسع، ونحن نعيش في سجن صنعناه بأيدينا. سأبحث عن حياة لا يحكمها الخوف."
اختفى بين الأشجار، ولم يعد أحد يسمع عنه شيئًا.
لم يكن رحيل ريحان مجرد خسارة لأخ، بل كان شرارة أشعلت نيران الشكوك في قلب سادن.
كان يراقب ناب، الذي أصبح سيد الأرض بلا منازع، لكنه لم يكن سعيدًا. القوة جلبت له الطاعة، لكنها لم تجلب له الاحترام. كان يسمع الهمسات، يرى نظرات الخوف في أعين الآخرين، حتى أمه وردة لم تعد تنظر إليه كابن، بل كحاكم قاسٍ.
في أحد الأيام، جاء غراب أسود إلى أرضهم، وقف على غصن منخفض وقال بصوت خشن:
"رأيت من رحل عنكم... يعيش الآن بين الذئاب، لكنه لم يصبح واحدًا منهم."
لم يعره ناب اهتمامًا، لكنه زرع في عقل سادن بذرة شكٍّ لم تلبث أن نمت. ماذا يعني أن يعيش ريحان بين الذئاب دون أن يصبح ذئبًا؟ هل وجد شيئًا يجهله الجميع هنا؟
قرار الرحيل
بعد أيام، بينما كان القمر مكتملاً، تسلل سادن خارج الأراضي. مشى لساعات طويلة حتى بدأ يشم روائح غريبة، روائح لم تكن موجودة في موطنه. وفي لحظة صمت، سمع عواءً، لكنه لم يكن عواءً مفترسًا، بل كان يحمل شيئًا من الحزن، من العمق.
ثم رآه...
ريحان، لكنه لم يكن وحده. كان يجلس بين مجموعة من الذئاب، لكنه لم يكن خائفًا، ولم يكن تابعًا. كان بينهم، لكنه لم يكن منهم.
عندما اقترب سادن، التفت إليه ريحان، وفي عينيه لمعت حكمة لم يرها من قبل. قال بهدوء:
"أعلم أنك ستأتي... السؤال هو، هل أتيت لتعرف، أم لتحكم؟"
سادن لم يعرف كيف يجيب. كان يتوقع أن يرى أخاه خائفًا، تائهًا، لكنه كان أكثر طمأنينة من أي وقت مضى.
ريحان نظر نحو السماء وقال:
"نحن الكلاب نولد وفي عقولنا قيد، نعتقد أن الحياة إما سلطة أو طاعة. لكن هنا، بين الذئاب، عرفت الحقيقة: لا شيء يجبرك أن تكون السيد أو العبد... يمكنك فقط أن تكون."
كانت تلك الليلة بداية تغيير لم يكن أحد يتخيله.
العودة إلى الوطن
عاد سادن إلى موطنه، لكنه لم يعد كما كان. نظر إلى ناب، الذي بدأ يدرك أن قوته لم تحمِه من الوحدة. قال له سادن بهدوء:
"أنت تملك الأرض، لكن هل تملك نفسك؟"
لم يرد ناب، لكنه في تلك الليلة، ولأول مرة، لم ينم بسهولة.
أما سادن، فقد عرف أنه لن يبقى هنا طويلاً. كان هناك عالم أوسع، عالم لا تحكمه القوة فقط، بل تحكمه الحرية... وعرف أنه مستعد لاكتشافه.
الفصل الأخير: ما بعد القوة
لم يعد ناب كما كان.
بعد كلمات سادن، بدأ شيء ما في داخله يتآكل. لم يكن الخوف، بل الإدراك البطيء أن القوة وحدها لا تعني شيئًا إذا كان الجميع يطيعونك فقط لأنهم يخشونك.
في تلك الليلة، وبينما كان يسير وحيدًا على أطراف أرضه، سمع صوت خطوات خلفه. لم يكن أحد من القطيع، بل كان سادن. وقف أمامه وقال بهدوء:
"كنت أظن أنني الأقوى، لكني لم أنتصر على شيء سوى خوفي. أما أنت، فقد انتصرت على شيء أكبر... قناعاتنا القديمة."
ناب لم يرد، لكن للمرة الأولى، نظر إلى أخيه دون شعور بالتفوق. نظر إليه كندٍّ، وربما كمعلم غير متوقع.
في صباح اليوم التالي، اجتمع القطيع بأكمله.
وقف ناب أمامهم، لكن هذه المرة، لم تكن نظرته نظرة حاكم. نظر إلى أمه، إلى العجائز، إلى الصغار، وقال:
"لا أريد أن أحكمكم بعد الآن."
ساد الصمت. لم يفهموا ما كان يقصده. كيف يمكن لقائد أن يتخلى عن قوته؟
ثم أكمل:
"القوة ليست في السيطرة... بل في الفهم. والآن، سأبحث عن شيء آخر غير الخوف."
ثم، فعل ما لم يتوقعه أحد: غادر.
ترك كل شيء خلفه، وسار نحو المجهول.
ما بعد الرحيل
أصبح سادن القائد الجديد، لكنه لم يحكم كما فعل ناب.
لم يعد هناك سيد وعبد، لم يعد هناك طاعة عمياء. بل أصبح هناك فهم أن القوة ليست هدفًا، بل وسيلة لحماية الحرية.
أما ريحان، فقد أصبح أسطورة، الكلب الذي عاش بين الذئاب لكنه لم يصبح واحدًا منهم. وأما ناب...
يقولون إنه شوهد في الغابة، وحيدًا، لكنه كان يبتسم لأول مرة. لأنه أخيرًا، لم يعد يحارب أحدًا... حتى نفسه.
الفصل الجديد: طريق بلا عودة
لم يكن ناب قد عرف معنى الحرية حتى تخلى عن كل شيء. حين غادر أرضه، لم يحمل معه سوى جسده المرهق وعقله المثقل بأسئلة لم يطرحها من قبل. كان يمشي بلا وجهة، لكن لأول مرة، لم يكن يبحث عن السيطرة، بل عن الفهم.
مرَّ بأراضٍ لم يكن يعرفها، رأى قطعانًا أخرى، بعضها يحكمها الرعب، وبعضها يحكمها العدل. رأى ذئابًا لا تخشى الوحدة، وثعالبًا تعيش بالخداع، وكلابًا تسير في جماعات، لكنها لا تعرف إلى أين.
ثم، ذات مساء، بينما كان يجلس على تلة تطل على نهر متلألئ، سمع صوتًا خلفه. لم يكن سادن، لم يكن ريحان. كانت أنثى، سوداء الفراء، عيناها بلون العسل، تحمل نظرة من رآى الكثير لكنه لم يفقد الأمل.
قالت بصوت هادئ:
"أنت الذي تخلّى عن عرشه، أليس كذلك؟"
نظر إليها ناب طويلاً، ثم قال بابتسامة خفيفة:
"بل أنا الذي وجد نفسه."
ضحكت، ثم جلست بجانبه، وقالت بصوت عميق:
"وهل وجدت ما تبحث عنه؟"
نظر إلى الأفق، إلى العالم الذي لم يعد يخيفه، وقال:
"ليس بعد... لكنني مستعد للاستمرار."
لأن الحقيقة ليست مكانًا نصل إليه... بل طريق نمشيه.
الفصل الجديد: دائرة المعرفة
في الصباح التالي، استيقظ ناب على صوت المياه المتدفقة في النهر، ورائحة الأرض الرطبة بعد ليلة من الندى. لم تكن الأنثى بجانبه، لكنه لم يشعر بالوحدة. لأول مرة، لم يكن بحاجة إلى قطيع ليشعر بوجوده، ولم يكن بحاجة إلى تابع ليشعر بالقوة.
لكن صوته الداخلي لم يصمت:
"إلى أين الآن؟"
بدأ بالسير على طول النهر، متتبعًا مجراه كما لو كان يبحث عن شيء لم يعرفه بعد. وعلى الطريق، بدأ يلاحظ تفاصيل لم يكن يلتفت إليها من قبل: الطيور التي تحلق دون خوف، الأسماك التي تسبح دون قائد، الأشجار التي تنحني للرياح دون أن تنكسر. كل شيء في الطبيعة كان متوازنًا... بلا حاكم.
ثم، عند منعطف ضيق حيث يضيق النهر ويتحول إلى جدول هادئ، وجد كهفًا صغيرًا، بابه نصف مخفي بالأغصان. ومن داخله، خرج صوت عميق، هادئ، لكنه محمل بالمعرفة.
"أخيرًا وصلت."
وقف ناب متأهبًا، لكنه لم يشعر بالخطر. من بين الظلال، ظهر كلب عجوز، ذو فرو رمادي ممزوج بآثار الزمن، وعينين تخفيان خلفهما أعوامًا من الأسرار.
قال العجوز وهو يقترب ببطء:
"كنتُ في انتظارك."
نظر إليه ناب بشك:
"كيف عرفت أنني سأصل؟"
ابتسم العجوز وقال:
"لأنك، مثل كل من سبقوك، سرت في الدائرة ذاتها. من يبحث عن القوة، ينتهي بفقدانها. ومن يبحث عن الفهم، يجد نفسه هنا."
جلس ناب أمامه، لأول مرة ليس كقائد، وليس كمتمرد، بل كمتعلّم.
وسأله بصوت خافت:
"إذن... ما هو الطريق الحقيقي؟"
ابتسم العجوز، وقال:
"اسأل نفسك، هل تريد أن تعرف... أم أنك مستعد لتفهم؟"
الفصل الجديد: الطريق نحو الداخل
جلس ناب أمام العجوز، عاقدًا العزم على الفهم، لا فقط المعرفة. كانت الرياح تهب بلطف، كأنها تحمل همسات من زمن بعيد.
قال العجوز بصوت هادئ:
"قبل أن تبحث عن الطريق، يجب أن تعرف من يسير عليه. من أنت، ناب؟"
كان السؤال بسيطًا، لكنه اخترق أعماق ناب كالسهم. من هو؟ قائد تخلى عن عرشه؟ مقاتل تعب من الحرب؟ مجرد كلب يبحث عن إجابة؟
أخذ نفسًا عميقًا وقال:
"كنت أظن أنني القوة، ثم ظننت أنني الضياع. لكن الآن... لا أعلم."
ضحك العجوز، تلك الضحكة التي تحمل ألف معنى.
"وهذا أول الطريق... أن تعترف بأنك لا تعلم."
ثم أشار إلى النهر وقال:
"انظر إليه. إنه يتحرك دائمًا، لكنه لا يتساءل إلى أين. إنه ببساطة يسير، وعندما يواجه صخرة، لا يحاربها، بل يلتف حولها. القوة ليست في مقاومة التيار، بل في معرفة كيف تسير معه."
تأمل ناب الماء المتدفق، وشعر بشيء غريب... راحة لم يعرفها من قبل. طوال حياته، كان يقاوم، يحارب، يفرض سيطرته. لكن ماذا لو كان السر في التوقف عن القتال؟
نظر إلى العجوز وقال:
"وكيف أعرف إلى أين يأخذني التيار؟"
ابتسم العجوز وقال:
"حين تتوقف عن البحث عن الطريق، ستدرك أنك كنت عليه طوال الوقت."
المواجهة الأخيرة
لم تكن رحلة ناب قد انتهت بعد، لكنه الآن يرى العالم بعيون جديدة. كان عليه أن يعود، ليس كقائد، وليس كفرد يبحث عن قوة، بل كجزء من دائرة الحياة التي لا سيد لها ولا عبد.
عندما عاد إلى أرضه، وجد سادن يقود القطيع بروح جديدة، بروح من يفهم أن القوة الحقيقية ليست في الحكم، بل في الانسجام. لم يكن ناب بحاجة إلى استعادة مكانه، لأن المكان لم يعد يعني له شيئًا.
وقف على التلة، ونظر إلى أسرته، إلى موطنه، ثم إلى الأفق البعيد. كان هناك طريق جديد ينتظره، طريق لا يحتاج فيه إلى أن يكون سيدًا، ولا أن يكون تابعًا... فقط أن يكون هو نفسه.
وفي تلك اللحظة، أدرك الحقيقة الأخيرة:
"لم أكن أبحث عن القوة، كنت أبحث عن الحرية... وها أنا قد وجدتها."
ثم، دون تردد، أدار ظهره للماضي، وسار نحو المجهول، بلا خوف، بلا قيود، وبقلب أخيرًا... حر.
النهاية
كانت خطوات ناب الأخيرة تتردد في أرجاء الأرض كما لو كانت تترك خلفها أثراً خفيفاً، لكن عميقاً. لم يعد يحمل عبءًا ولا سُلطة، فقط قلبه المفتوح على العالم، الذي اكتشف أنه أوسع مما كان يظن.
في لحظة الوداع، كان قد ترك خلفه كل ما كان يُعتقد أنه ضروري: القيادة، القوة، السيطرة. واكتشف أن الحقيقية تكمن في البساطة، في أن تكون مع الريح، مع الماء، مع الأرض... أن تكون جزءاً من الحياة دون أن تحاول امتلاكها.
ومع ابتعاده عن تلك التلة، لم يعد يملك شيء سوى ذاته، ولم يعد بحاجة إلى شيء آخر. فقد كان قد بدأ طريقه الذي سيظل مفتوحًا أمامه، حيث لا حدود ولا نهايات، بل فقط استمرار غير مرئي في رقة الحياة ذاتها.
هكذا، وبخطوات هادئة، سافر نحو المجهول، ليترك خلفه عالمًا كان فيه مجرد كلب، ويصبح روحًا حرة تسرح حيثما شاءت، في بداية جديدة... بلا نهاية.
النهاية. 🌿