قصة قبل النوم: سرّ الظل على الحائط

قصة قبل النوم: سرّ الظل على الحائط

قصة قبل النوم: سرّ الظل على الحائط
قصة قبل النوم: سرّ الظل على الحائط


فصل أول: ظلّ على الحائط

في مساء هادئ، والنجوم تومض بخجل خلف ستار من الغيوم، كانت ليلى الصغيرة تتقلب في فراشها، تغطي وجهها تارة بالوسادة، وتارة تسرق النظر إلى باب غرفتها المغلق. لم تكن تخشى الظلام، لكنها كانت تشعر بأن هناك من يراقبها... لا تدري من، ولا من أين يأتي ذلك الشعور.
أمي، هلّا حكيتِ لي قصة قبل النوم؟، همست ليلى بصوت مبحوح، كمن يهرب من فكرة تُلاحقه.
دخلت الأم الغرفة، جلست على طرف السرير، ومسحت على شعر ابنتها بلطف وقالت:
أي قصة تحبين؟ عن قمر يتكلم؟ أم عن طائر لا ينام؟
ابتسمت ليلى، ثم همست:
أريد قصة لا تشبه القصص... أريد شيئًا حقيقيًا، شيئًا قد يكون حدث فعلًا.
أومأت الأم، وكأنها كانت تنتظر هذا الطلب منذ زمن.
حسنًا يا ليلى، سأحكي لك عن قصة جرت في قرية نائية، حيث كان الأطفال لا ينامون ليلًا لأن ظلًّا غريبًا كان يظهر كل مساء على حائط أحد المنازل... ولم يعرف أحد من أين جاء.
رفعت ليلى رأسها باهتمام، وعيناها تتسعان بفضول طفولي نقي.
تابعت الأم:
كان هناك صبي يُدعى 'سامي'، يسكن مع جدته في بيت خشبي قديم. كل ليلة، حين يطفئون المصباح، يظهر ظلّ طويل على الحائط. لا يتكلم، لا يتحرك، لكنه يبقى هناك، صامتًا. حاول سامي أن يلمسه، أن يكشف سره، لكنه كلما اقترب منه... اختفى.
همست ليلى بدهشة:
وماذا حدث بعد ذلك؟
ابتسمت الأم، وربّتت على كتفها قائلة:
هذا ما سنعرفه في الفصل القادم يا حلوتي... الآن، أغمضي عينيك، ودعي القصة تكمل وحدها في حلمك.
أغلقت ليلى عينيها وهي تتخيل الظل، وسامي، والبيت الخشبي... ومن بعيد، بدت النجوم وكأنها تستمع أيضًا.

الفصل الثاني: رسالة من الظل

في الصباح، استيقظ سامي على صوت صياح الديكة، وعبير الخبز الطازج يتسلل من مطبخ جدته. نهض من فراشه بكسل، لكنه لم ينسَ ظلّ البارحة. كان يتردد في ذهنه كصدى بعيد، لا يُرى ولكن لا يُنسى.
جدتي، هل رأيتِ الظل من قبل؟
سألها وهو يغمز بعينه نحو الحائط.
ضحكت الجدة، ضحكة عجوز خبِرت الأيام:
ذلك الظل؟ نعم يا بني، إنه زائر قديم... يأتي فقط حين يكون في القلب سؤال لا يُجاب.
تجمد سامي للحظة، ثم همس لنفسه:
وأنا لدي ألف سؤال.
في تلك الليلة، حين عمّ السكون، جلس سامي وحده في غرفته، وقد عقد العزم أن يكتشف سرّ الظل. أطفأ المصباح، وجلس يراقب الحائط، ينتظر. ولم يطل انتظاره... ظهر الظل، طويلًا كما هو، صامتًا كما كان. لكن هذه المرة، بدا وكأن شيئًا ما قد تغيّر.
اقترب سامي ببطء، وقلبه يدق كطبول المهرجان. مدّ يده نحو الحائط، وهمس:
من أنت؟
لم يكن يتوقع أن يحدث شيء. لكنه لمح فجأة كلمات تُكتب على الحائط... لا بقلم، ولا بيد، بل كأن الهواء نفسه يرسمها.
أنا ما تُخفيه، وما تخشاه، وما تبحث عنه في الوقت ذاته.
ارتعد قلبه. لم يكن يعرف كيف يرد على ذلك. جلس على الأرض، يضع يديه على رأسه، يحاول أن يفهم.
أنا لا أخافك، فقط أريد أن أفهمك.
اختفت الكلمات، واختفى الظل.
لكن سامي شعر بأنه لم يكن وحده، وأن الظل... لم يكن عدوًا.
في اليوم التالي، بدأ سامي يدوّن كل ما حدث، وقرر أن يبحث في كتب القرية القديمة عن أسرار الظلال، وأن يسأل الحكماء، ويراقب الليل بعين جديدة.
لم يعد يخاف النوم.
بل صار ينتظره، كمن ينتظر موعدًا مع لغزٍ بدأ أخيرًا يتكشف له شيئًا فشيئًا...

الفصل الثالث: حارس الأحلام

في الليلة التالية، لم يكن سامي خائفًا، بل جلس مبكرًا في غرفته، مصباحه الخافت يوقد زاوية من الظلال، وقلبه يخفق بشوق للمجهول. حمل دفتره، وقلمه، وفتح النافذة لتتسلل رائحة الشجر الرطب إلى الغرفة، كأن الليل نفسه يهمس له: استعد.
وما إن أطفأ المصباح، حتى عاد الظل. لا زال صامتًا، لكنه بدا هذه الليلة أكثر وضوحًا، كما لو أنّه لم يعد مجرد خيال، بل حضورٌ له كيان.
همس سامي:
لماذا تأتي إليّ؟
وهنا، حدث ما لم يكن في حسبانه.
الظل تحرّك. نعم، تحرّك. لا كأي حركة بشرية، بل كوميض يتموّج على الجدار. ثم ظهرت كلمات جديدة، تُرسم على الحائط كما لو أن الحائط نفسه أصبح كتابًا.
أنا لا آتي إليك، بل تُوقظني أنت كل ليلة... لأنك مستعد لتسمع.
أسمع ماذا؟، سأل سامي بصوت مرتجف.
ظهرت جملة أخرى:
صوت نفسك الحقيقي، الذي تنساه حين تصحو، وتتذكره فقط في الحلم.
أحسّ سامي بشيء غريب في قلبه… إحساس لم يعرفه من قبل، كأنه يلامس جزءًا من روحه كان منسيًّا منذ زمن بعيد.
فجأة، سمع طرقًا خفيفًا على نافذته. لم يكن ريحًا، بل صوتًا حقيقيًا. فتح النافذة ببطء، فوجد طائرًا صغيرًا، له ريش أسود كالفحم، لكن في عينيه بريق يشبه ضوء القمر.
حدّق الطائر فيه، ثم نطق — نعم، نطق، بصوت هادئ أشبه بالهمس:
مرحبًا يا سامي... أنا مرسال الأحلام. أُرسل فقط إلى الذين يملكون أسئلة لا يسألها أحد.
تراجع سامي خطوة، لكنه لم يهرب. لقد تجاوز الخوف، وبات على أعتاب المغامرة.
سأله:
هل أنت من الظل؟
هزّ الطائر رأسه:
الظل ليس كائنًا... بل باب. وإن فتحتَه، لن ترى العالم كما كان.
ثم طار الطائر، وترك ريشة واحدة على النافذة.
التقطها سامي، وشعر بوخز خفيف في يده... وعندها، بدأ الحائط يتغير.
بدأ يرسم صورًا... غابة، وقلعة، وطفل يشبهه يقف وسط حشد من كائنات لا تشبه البشر.
همس الظل على الحائط:
لتعرف من أنا... عليك أن تدخل الحلم.

الفصل الأخير: حين يستيقظ الحلم

دخل سامي إلى الحلم... لا بنوم، بل بيقظة الروح. كانت الغرفة من حوله تتلاشى، وصوت الطائر يعود، لا يُرى، لكن يُسمع:
حين ترى قلبك، سترى كل شيء.
فجأة، وجد نفسه واقفًا على ضفة نهر من ضوء، والماء يعكس صورًا… صورًا من طفولته، من حزنه، من أوقات لم يخبر بها أحد، حتى نفسه.
ظهر الظل مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن على الحائط… بل واقفًا أمامه، كأنّه مرآة من دخان. كان يحمل ملامحه، ولكن بعينين مختلفتين: عينان تعرفان ما جهل، وتسامح ما أنكر.
قال له الظل بصوت يشبه صدى الأمل:
أنا أنت، حين كنت تختبئ خلف الخوف. أنا الجزء الذي لم تجرؤ أن تصدّقه.
سأل سامي:
ولماذا جئت الآن؟
أجابه الظل:
لأنك كبرت بما يكفي لتسأل، وصغرت بما يكفي لتؤمن من جديد.
ثم بدأ كل شيء يتلاشى…
استيقظ سامي، وهو يضع يده على صدره. لم يكن الحائط عليه شيء. لا ظل. لا كلمات. لكن على الطاولة، كانت الريشة لا تزال هناك.
دخلت جدته الغرفة، مبتسمة:
نمْتَ جيدًا؟
ابتسم وقال:
أظن أنني كنت مستيقظًا... ولكن في مكان آخر.
منذ ذلك اليوم، تغيّر سامي.
صار يرى العالم كما لم يكن يراه من قبل… صار يكتب، ويصغي، ويتأمل، ويبتسم كلما رأى ظلال الغروب على الحائط.
ولم يعد يخاف من الظل…
لأنه فهم أنه ليس شيئًا يُخاف… بل شيء يُحتَضن.
تمامًا كما هي الأحلام.
أبو ياسر المغربي
أبو ياسر المغربي
تعليقات