سوق درب غلف

سوق درب غلف

سوق درب غلف
سوق درب غلف

المشهد الأول: البداية – سؤال بلا إجابة

لم يكن اسمه مهمًا، ولا حتى شكله.
شاب في منتصف العشرينات، يحمل على كتفه حقيبة سوداء، وداخل عينيه فراغ لا يعرف كيف يُملأ. كان يمر بأيامه كما تمر الساعات، هائمة في لا شيء، مليئة بشعور يطارد ذاته. جاء إلى الدار البيضاء هربًا من مدينة صغيرة لا تسامح التائهين. لم يكن يخطط لحياته كما يفعل البعض، بل كان يسرق لحظات أمل عابرة، يسافر من يوم لآخر، يظن أن الحياة قد تجلب له معنى في مكان آخر.
"قيل لي إنّ في سوق درب غلف ما لا يُباع في أي مكان آخر..."
قالها لنفسه وهو يدخل الزقاق الرئيسي للسوق، بينما عينه تتنقل بين الوجوه والروائح التي تملأ المكان. كان السوق مكتظًا بألوان وأصوات تتداخل بشكل يعجز عن تحديده.
لكنه لم يكن يبحث عن هاتف مستعمل أو قطعة غيار نادرة، كما يفعل بقية الزوار الذين يتسوقون بنية واضحة وأهداف محددة. بل كان يبحث عن شيء أعمق. عن نفسه، ربما. عن شيء مفقود منذ أن غادر مدينته، حيث كانت كل الأمور تائهة، وحتى الذات نفسها.
أخذ خطوة أخرى، كل خطوة كانت أكثر ضياعًا، وكل زاوية جديدة كانت تثير تساؤلات لم يكن يعرف كيف يجيب عليها.

المشهد الثاني: الأزقة المتكلمة

مع كل خطوة، كان السوق يُغلق عليه أكثر. الأزقة تتسع وتضيق في ذات الوقت، وكلما اقترب من أحد المحلات، زادت كثافة ضياعه. الإلكترونيات المستعملة مكدسة على الطاولات كما لو كانت إعلانات للحياة الماضية. هناك، على الطاولة، أجهزة بلاستيكية تالفة، أسلاك متشابكة، شاشات تنطفئ وتضيء بلا سبب، تتنقل بين الحياة والموت.
لكنه شعر أنّ أزقة درب غلف تهمس له، كما لو كانت تعرف من يكون، أو ربما تعرف ماذا يبحث عنه. شعور غير محدد، لكنه كان هنا، في قلب الزحام.
أصوات الناس، خطواتهم السريعة، العبارات المتناثرة التي كانت تُلقى بين التجار، كلها كانت تُشعره وكأن هذا السوق هو مكان من لا مكان له.
سأله رجل غريب عند الزاوية، في سمة مستفزة من الفضول:
– "شنو كتقلب عليه بالضبط؟"
وضع يديه في جيوب معطفه وأجاب دون أن يرفع عينيه عن الرجل:
– "ما عرفت... شي حاجة ضايعة فيّ."
ابتسم الرجل، ابتسامة غامضة مليئة بشيء من الفهم أو ربما التعاطف، ثم أشار إلى الداخل قائلاً:
– "اللي تيدخل لهنا، ماشي ضروري يلقا اللي باغي... ولكن ممكن يلقا شي حاجة ما كانش كيتخيلها."
كأنما هذه الكلمات جاءت لتصف حاله بشكل دقيق: هو لم يكن يعرف تمامًا ما يبحث عنه، لكنه كان مستعدًا للعثور على شيء لا يعرفه. شيء ربما سيغير كل شيء.

المشهد الثالث: عمي العربي وفلسفة البيع

بينما كان يواصل السير، جذبته رائحة غريبة لأدوات قديمة، محشورة في ركن من السوق. توقف عند محل صغير حيث يجلس شيخ عجوز أمام طاولة تغصّ بـ مكبرات صوت قديمة. كانت تلك الأجهزة تبدو وكأنها آلات من زمن آخر، يخرج منها أصداء أصوات قديمة، أصوات أجداد عاشوا في زمان مختلف.
قال له العجوز، وكأنه يعرفه منذ زمن طويل:
"في سوق درب غلف، كل واحد كيجي بشي جرح، وكل سلعة هنا بحال مرهم… كتغطي ولكن ما كتداويش."
كانت الكلمات ثقيلة، لكنها تحمل بصمة الحقيقة. فكل شخص يدخل هذا السوق، يأتي بحمل ثقيل، ربما من الماضي أو من اللحظة التي جاء فيها. وكل شيء هنا يحمل ذكرى ما، سواء كانت في جهاز قديم أو في فوضى السوق نفسه.
أخذ الشاب جهازًا صدئًا من على الطاولة وسأل:
– "وهاد الراديو؟"
– "خدامش… ولكن فيه ذكريات بصوت جدودنا."
ضحك الشاب، لكن سرعان ما توقف. لم يُرجع الجهاز إلى مكانه، بل وضعه في حقيبته دون أن يعرف لماذا. ربما كانت تلك الذكريات التي تكلم عنها العجوز هي التي كانت تفتقدها روحه. ربما كان ذلك هو الشيء الذي كان يبحث عنه طوال هذه السنين.

المشهد الرابع: المتاهة

ازدادت الأزقة ضيقًا مع مرور الوقت. هواتف قديمة، كاميرات مراقبة، حواسيب مفككة، أشرطة كاسيت... كل شيء كان موجودًا. وكان هذا المزيج يثير في ذهنه أفكارًا متداخلة. لا شيء هنا مكتمل، لكن في عدم اكتماله، كان هناك شيء يشبه الحقيقة.
لكنه شعر كأن السوق يحاصره، كأن كل زقاق سؤال، وكل محل إجابة غامضة. كانت تلك المتاهة تزداد التواءً مع كل خطوة، وكأنها تدفعه إلى داخل نفسه.
ضاعت ملامح الخريطة التي كان يتبعها. فجأة، لم يعرف هل هو يبحث عن سلعة، أم يهرب من شيء بداخله.
وقف للحظة في منتصف الزقاق، يستنشق هواء السوق الملوث برائحة العرق والغبار، ثم قال لنفسه:
"أنا داخل محرك بحث… لكن الكلمة المفتاحية غير معروفة."
كان يتصفح عقله كما لو كان يبحث عن إجابة في محرك بحث، لكن الكلمات التي تحرك ذهنه كانت غير مكتملة. لم يكن يعرف عن نفسه سوى أنه فقد الطريق إلى نفسه، وأنه في هذا السوق الضائع، قد يكتشف شيئًا لا يتوقعه.

المشهد الخامس: الانعكاس

مع بداية الغروب، بدأ السوق يخفت. درب غلف تغير صوته. لم يعد صاخبًا كما كان في بداية اليوم. صار يشبه نفسه أكثر، كما لو أنه خرج من دوامة الصخب إلى حالة من السكون. كانت الأضواء الخافتة تعكس ظلاله على الجدران المتهالكة، وكان الهمسات هنا قد تلاشت تمامًا.
جلس الشاب على درج إسمنتي في زاوية السوق، ووضع الحقيبة بجانبه، يراقب المتسوقين الذين يمرون بجانبه، كل منهم يهرب وراء شيء. فتح الراديو الصدئ، كما فعل سابقًا، لكنه لم يشتغل. لم يدهشه ذلك. في هذا السوق، لا شيء يعمل بالطريقة التي تتوقعها. لكن في تلك اللحظة، شعر بشيء يتغير. وكأن الصمت فيه أغنية، وكأن الأصوات التي كانت مفقودة طوال اليوم قد تجمعت في داخله، كل صوت يصبح جزءًا منه.
كان يبحث عن شيء ما. لم يجده بالضبط، لكنه وجد ما لم يكن يعرف أنه يحتاجه. وجد مرآة لنفسه في سوق كل شيء فيه مستعمل… حتى الوجوه، حتى الأحلام. ربما كان البحث عن ذاته في هذا المكان هو ما جعله يقف هنا، أقل ضياعًا، وأكثر قبولًا للفراغ الذي يعيش فيه.

خاتمة القصة:

في طريقه للخروج، كتب على مذكّرته:
"درب غلف: السوق الذي لا يُباع فيه شيء دون ذاكرة، ولا يُشترى فيه شيء دون وجع... لكنك حين تخرج، تكون أقل ضياعًا مما كنت عليه حين دخلت."
كانت تلك الكلمات هي خاتمة لرحلة لم يكن يعلم أنها ستغيره. ربما لم يجد كل ما كان يبحث عنه، ولكن في هذا السوق المتشابه مع نفسه، بدأ يكتشف أن الضياع ليس دائمًا نهاية الطريق.

أبو ياسر المغربي
أبو ياسر المغربي
تعليقات