الأسد الذي لم يزأر: قصص طويلة عن الحيوانات

الأسد الذي لم يزأر: قصص طويلة عن الحيوانات

الأسد الذي لم يزأر: قصص طويلة عن الحيوانات
قصصي بالعربي


مقدمة القصة: صمتٌ يصرخ في قلب الغابة

لا شيء يُقلق الغابة أكثر من الهدوء المفاجئ.
في هذا الركن المنسي من العالم، حيث لا تصل إشارات الأقمار الصناعية ولا رائحة المدن، هناك غابة تعرف كيف تهمس، كيف تصرخ، كيف تتنفس. الأشجار لا تنمو هنا، بل تتسلل نحو السماء كأنها تهرب من شيء تحت الأرض. الهواء لا يُستنشق بسهولة، بل يُنتزع من صدرك وكأن الغابة ترفضك.
وفي عمق هذا المكان الملعون، كان هناك مخلوق لا يُشبه غيره.

أسد.
لكن ليس كما نعرف الأسود.
كان "راغور" لا يزأر، لا يركض، لا يهاجم. لم يسمع أحد صوته. لم يرَ أحد مخالبه. ومع ذلك، كان الكل يخشاه.
النسور كانت تحلق فوقه بصمت، ثم تغير مسارها فجأة. الذئاب تدور حول منطقته كما يدور الموت حول مريض يحتضر، تراقبه من بعيد، وتبتعد بلا سبب. حتى الزواحف... كانت تنسل بعيدًا عندما تمر بظلٍّ له، حتى وإن لم تكن قد رأته.
الأسطورة تقول إنه فقد صوته يوم رأى شيئًا لا يُروى.
والأكثر رعبًا من الأسد الذي يزأر... هو الأسد الذي يرفض أن يزأر.
كانت الغابة تعرفه. الأشجار تفتح له الطريق. الليل لا ينزل بالكامل حتى ينام. لكن شيئًا ما تغير هذا الموسم.
رائحة دخيلة تسللت من بعيد.
ليست رائحة غزال، ولا دم، ولا حتى فهد.
بل رائحة إنسان.
وراغور... لم يكن يحب البشر. لم يكن يقتلهم، بل ينتظر أن يقتلهم خوفهم.
لكن هذه المرة... كانت مختلفة.

الفصل الأول: ظل لا ينام

الغابة نائمة، لكن عينا راغور لا تغمضان.
كان الليل قد التهم السماء، والنجوم تُشاهد من بين الأغصان المتشابكة كعيون قديمة تراقب من بعيد. هدير الريح بين الأشجار بدا كمناجاة حزينة، تهز أغصان السنديان وتدفع أوراق الماهوغاني إلى الرقص كأنها تهرب من ذاكرة لا تُحتمل.
في قلب هذا الظلام، تحت شجرة عظيمة الجذور، استلقى راغور.
لا يتحرك. لا يصدر صوتًا. لكنه يُفكّر.
كانت عيناه تلمعان كالبرق في ليلة عاصفة، تراقبان كل تفصيلة في الغابة كما لو أنه جزء منها... أو سيّدها الحقيقي. صدره لا يصعد ولا يهبط، كأن أنفاسه تأتي من مكان آخر، أقدم من هذا الزمن.
لم يكن راغور مثل بقيّة الأسود. لم يكن يهتم بالفرائس، ولا يتسابق على الحدود، ولا يزأر ليُرعب أو يفرض هيبته.
هيبته؟
إنه لا يحتاجها.
يكفي أن تمرّ نظراته فوق جسد ظبي صغير، فيتوقف قلبه من الرعب. يكفي أن تلمس قدماه اليابسة، فتهرب الفئران من بين الجذور. لقد نسي الجميع متى جاء، ومتى أصبح "الملك"، لكنهم يذكرون أمرًا واحدًا لا يُنسى:
أنه لم يزأر قط.
ولذلك، خافت الغابة.
الوحوش، حتى أعنفها، كانت تعرف أن الزئير ليس الصوت الوحيد الذي يُهدد. هناك نوع آخر من السيادة... لا يُسمع، بل يُحسّ. مثل الظلام حين يُطفئ الدفء، أو الوحدة حين تبتلع الزمن.
كان راغور صامتًا. دائمًا.
لكن في تلك الليلة... شَمَّ شيئًا.
رائحة مختلفة. غريبة. ساخرة.
لم تكن رائحة الغابة. لم تكن حيوانًا جائعًا أو حتى صيادًا متسللاً. كانت رائحة لحم نظيف... بشري. رائحة صابون حديث، معدن بارد، وأقدام غير معتادة على الطين.
فتح عينيه ببطء.
كانت الأرض تهتز من بعيد بخطوات واثقة. لم يسمعها... بل شعر بها.
فجأة، انحنى النسيم، وسقطت ورقة على وجهه. رائحتها كانت محمّلة بذات الرائحة... رائحة الدخيل.
راغور لم ينهض. لم يهدر. لم يتحرك حتى.
لكنه كان ينتظر.
ولما ينتظر الأسد؟
الجواب كان بسيطًا:
حين يصمت مَن بوسعه الزئير، فإن ما ينتظره... ليس فريسة.
بل لعنة.

الفصل الثاني: الرجل الذي لا يؤمن بالخوف

في بعض الأحيان، لا يكون التهديد في المكان… بل فيمن يدخل إليه.
اسمه "جورا"، رجل بلا جذور، يتنقل كما تتنقل النيران بين الأعشاب اليابسة. صياد محترف، تعلّم أن يتتبع الظلال، ويصطاد الصمت، ويغوي الموت. كان يعتقد أن العالم ملك من لا يخاف، وكان يردد دائمًا لنفسه:
"إذا شعرت بالخوف… اقتله قبل أن يراك."
لكنه لم يعرف أن هناك خوفًا لا يُرى… ولا يُقتل.
دخل الغابة مع أول تنفس للفجر، بينما كان الضباب لا يزال يحتضن الأرض ككفن رقيق. على ظهره بندقية طويلة، وفي عينيه بريق لا يشبه الحذر بل التحدي. لم يكن يجهل ما يقوله الناس عن الغابة، بل كان يبحث عن تلك القصص تحديدًا.
– "أسد لا يزأر؟" – قالها بصوت خافت وهو يدوس على أوراق ميتة – "هذا يعني أنه خائف. وأنا أبحث عن مَن أخافه."
لكن الغابة لم تُجبه. اكتفت بإغلاق المسارات خلفه بصمت.
الأشجار تراقبه. الحشرات تختبئ منه. حتى الطيور، التي اعتادت التحليق فوق الرؤوس، كانت تتجنبه كأنه يحمل شيئًا لا يجب أن يدخل.
توقف عند بقعة خالية من العشب، حيث الأرض تشبه جلدًا محروقًا. مسح عرقه بيده، وشمّ الهواء... فتجمد.
رائحة غير طبيعية... ليست دمًا، بل... كأن شيئًا محترقًا قد دفن حيًّا هنا.
انقبض صدره للحظة، ثم ضحك ساخرًا:
– "أساطير. كلها خرافات. الأسود تزأر، وإذا لم تزأر… فقد كُسرت أنيابها."
لكنه لم يعلم أن راغور لا يحتاج أنيابًا... فقط عيونًا.
وبينما كان يستدير ليُكمل طريقه، التقت عيناه بشيء على جذع شجرة: مخالب محفورة بدقة، ستة خطوط عميقة، رأسها يشير نحو الشرق.
تقدم بخطوات حذرة.
المخالب لم تكن عادية. لم تكن حديثة. لكنها لم تَبهت بعد… وكأنها تُجدد نفسها كل ليلة.
– "هل تُعلّق الأشجار تواقيع الوحوش؟" – تمتم متوترًا.
ثم سمعها...
همسة.
ليست صوتًا بشريًا. ليست ريحًا. بل كأن الغابة كلها... تنفّست في أذنه.
جورا توقف، هذه المرة لم يتحرك.
صمت مُطبق. ضباب يتكاثف. وبرودة تشبه أصابع ميت تُلامس ظهره.
وفجأة، في طرف الرؤية… شيء تحرّك.
لم يره، لكنه عرف أنه هناك.
الأسطورة التي جاء يصطادها... بدأت تُصطاده.

الفصل الثالث: خطى في الطين

الخطر الحقيقي لا يأتي من الأشياء التي نراها، بل من تلك التي تُراقبنا ونحن نُقسم أنها غير موجودة.
بدأت الأرض تُصبح لزجة. الطين يتشبث بحذاء جورا كأنه لا يريد تركه يُكمل طريقه. كل خطوة كانت أبطأ، وكل نفس كان أثقل.
لكن جورا لم يكن رجلاً يُكمل الطريق نصفه. هو إما يصل… أو يختفي.
رفع سلاحه بعزم، لا ليُطلق، بل ليشعر أنه ما زال يملك شيئًا يتحكم فيه.
كان الضباب قد أحاط به كعباءة، وكأن الغابة نفسها قررت أن تختبئ منه، أو به.
توقف فجأة.
سمع صوتًا خافتًا… لا، ليس صوتًا، بل خطوة.
ثم أخرى.
ثم توقفت.
استدار بسرعة، لا شيء.
ثم من اليمين… خشخشة أوراق.
ثم من الخلف… صرير غصن يُكسر ببطء.
جورا غمغم:
– "لا تلعب معي، أيًا كنت…"
لكنه كان يعرف… هذا ليس لعبًا.
اقترب من جذع شجرة مائل، رآه يتحرك قليلًا… لكن الريح كانت ساكنة.
وعندما لمس الجذع، شعر به دافئًا.
دافئ… كأن شيئًا حيًّا كان مستندًا عليه قبل لحظات. شيئًا له نبض. شيئًا له أنفاس… وشيء لا يجب أن يكون هنا.
تراجع.
الضباب انقسم من خلفه فجأة، كأن شيئًا يمرّ فيه.
التفت جورا سريعًا، لكنه لم ير شيئًا.
لكنه شعر بشيء خلفه.
هدوء.
صمت ملوّث بالخوف.
ثم… وقع نظره على أثر أقدام في الطين.
كبيرة. دائرية. لأسد.
لكنها لم تكن أقدام دخول… بل خروج.
ومع ذلك، لم يكن هناك أسد في المنطقة... فقط طيف.
أراد أن يتحرك، لكنه لم يستطع.
قدماه تجذرتا بالأرض. وعيناه ثبتتا على خط معين في الأفق… حيث بدأت عينا الأسد تظهران.
أولاً كوميض.
ثم كنقطة نار في الضباب.
ثم… لم يكن الضباب فقط مَن يُخفي شيئًا… بل جورا من لم يكن مستعدًا لرؤيته.
سقط الطين من يده.
وانطفأ الضوء من عينيه للحظة.
– "ما هذا بحق الجحيم…؟" – قالها بصوت مرتجف، لأول مرة.

الفصل الرابع: الزئير الصامت

في قلب الغابة، لا تُقاس القوة بالصوت... بل بالصمت الذي يُجبر القلوب على التوقف.
وقف جورا متجمداً، يحدّق في نقطة واحدة وسط الضباب. عيناه تركزان على الظل المتحرك… أو ما يظنه ظلًا. لكن الحقيقة؟ لم يكن يعرف إن كان ما يراه حقيقيًّا… أم بدأ الجنون يغزو عقله.
كان هناك شيء في الظلام... يبتسم.
لم يكن للأسود أن تبتسم، لكنه أقسم أنه رأى زاوية الفم ترتفع... ليس للتهديد، بل للسخرية.
تراجع جورا خطوتين.
سمع الطين يصدر صوتًا لزجًا تحته، كأن الأرض نفسها تمضغ خطاه.
– "هل أنا... أُهلوس؟" – سأل نفسه بصوت أقرب للهمس.
لكن الصوت الآخر أجابه، من داخله:
"لا، لقد وصلت. وها هو ينتظر... منذ سنوات."
ضرب رأسه بعنف، كأن الكلمات تسربت إلى دماغه من مصدر لا يُرى.
أحس بأن أنفاسه أثقل. الهواء أصبح أكثر كثافة، كأن الغابة لم تعد فقط تحتضنه، بل تخنقه.
ثم سمع شيئًا... ليس زئيرًا.
بل نبضًا.
صوت قلب، ضخم، ثقيل، ينبض في الأرض نفسها، في الأشجار، في جلده.
دُووم... دُووم...
مع كل نبضة، تذبذب الضباب.
ثم، دون سابق إنذار... اختفى الظل.
كأن الغابة بلعته.
لكن على الأرض... بقيت بصمة مخلب.
ستة خطوط، تمامًا كالسابق، لكنها محفورة في الطين هذه المرة. غائرة. ساخنة.
مدّ جورا يده نحوها دون وعي، وعندما لمسها، شعر بحرارة غير منطقية... كأنها تنتمي لمكان آخر، أو زمن آخر.
وفجأة، تردّد صدى صوت في رأسه، همس خافت… لا يُشبه أي صوت سمعه من قبل:
"لماذا دخلت؟"
"هل جئت لتُعيد الزئير؟"
"أم لتفقده أنت أيضًا؟"
جورا ارتعد. قلبه، الذي لم يعرف الخوف منذ طفولته، بدأ يخفق كقلب أرنب محاصر.
– "من... أنت؟!" – صرخ بارتباك.
لكن الغابة صمتت.
والصوت داخله فقط... ضحك.
ضحكة رخوة، بطيئة، كأنها تخرج من صدر مليء بالرماد.
ثم حدث شيء أخير قبل أن ينتهي الفصل.
الشمس أشرقت.
لكنها لم تُضِئ شيئًا.
الضباب لم يتبدد.
والغابة، وللمرة الأولى، أصبحت بلا ظل.
كأن الأسد... قد استيقظ.

الفصل الخامس: حين كان الزئير حياة

كل وحش كان يومًا مخلوقًا يبحث عن الأمان… حتى خذله الصوت.
جلس جورا تحت شجرة مُلتوية، لا ليُريح جسده، بل ليُقاوم انهيار عقله. كانت يداه ترتجفان، والسلاح لا يبدو كافيًا أمام شيء لا يرى، ولا يسمع، ولا يُمسك.
أغمض عينيه.
لكن الراحة لم تأتِ.
بل جاء المشهد.
رأى نفسه طفلًا، في كوخ قديم، يستمع لجدّه وهو يروي القصص عن "ملك الغابة" الذي لم يكن يومًا ملكًا… بل منفيًا.
– "كان اسمه راغور..." – قال الجد بصوتٍ مشبع بالحزن.
– "كان أشجع من أن يخاف، وأقوى من أن يُهزم، لكنه أخطأ مرة واحدة… فخسِر صوته."
جورا سأل حينها:
– "كيف يخسر الأسد زئيره؟"
ابتسم الجد بأسى:
– "عندما يفقد شيئًا لا يُعوَّض… ابنه."
فتح جورا عينيه.
الكوخ اختفى.
لكن الرائحة... بقيت.
رائحة الخشب المحترق. رائحة الرماد. رائحة الفقد.
ثم رأى ما لم يُرد أن يراه.
على جذع شجرةٍ أمامه، كانت هناك رسمة بدائية... كأن أحدهم نحتها بأظافره: أسد يحمل شبلاً، وألسنة لهب تلتهم المكان.
ارتجف قلبه.
هل هذه الغابة... قبــر؟
هل الأسد الذي لا يزأر... يبحث عن شيء؟ أم ينتظر من يُعيد له صوته المسروق؟
وفي لحظة خاطفة، سمع الزئير.
لكن ليس بأسماعه.
بل في روحه.
زئير عميق، كأن الكون كله انشقّ ليصرخ، ثم أُغلق فجأة.
نهض جورا، ووجهه شاحب.
– "هو لا يصمت لأنه يخاف..." – تمتم.
– "هو يصمت... لأنه ينتظر أن يسمعه أحد."
أدرك أن الرعب الحقيقي ليس في الوحش… بل في الحزن الذي تحوّل إلى وحش.
لكن ماذا لو استيقظ راغور... وقرر أن لا يصمت بعد اليوم؟

الفصل السادس: مرآة من الطين

ليست كل المرايا مصنوعة من الزجاج… بعضها من الطين، والموتى ينظرون منها إلينا.
كان جورا يسير دون اتجاه، لكنه شعر أن الأرض هي من تُرشده. الطين يلتفّ حول قدميه بحنان بارد، كأنه لا يُريد أن يؤذيه… بل يُنبهه.
كل شجرة يمر بجانبها، كانت تحمل أثرًا: خدشًا عميقًا، رموزًا غير مفهومة، أو خطوطًا دموية تشبه الكلمات.
لكن أكثر ما أزعجه... أنه كان يمر بنفس الشجرة مرارًا.
ليس تشابهًا… بل نفسها.
توقّف أخيرًا عند بركة ضحلة من الماء والطين. لم تكن موجودة في الخارطة، ولم يكن لها مصدر.
ركع، وحدّق فيها.
رأى وجهه... مشوَّهًا.
تشققات في بشرته، عيناه مائلتان بلون غريب، وفمه مفتوح كأن الزئير يخرج منه هو.
ثم تغيّر الوجه.
صار وجه أسد.
لكن ليس أي أسد.
كان راغور… يتنفّس من خلاله.
تراجع مرعوبًا، اصطدم بجذع، سقط أرضًا. الطين التصق بيده، لكنه لم يكن طينًا فقط.
بل دم.
رفع يده، ورآها ترتعش.
ثم سمع الصوت...
"إن لم تُزأر، فستُدفن. وإن زأرت… فستموت من جديد."
تلفّت حوله بجنون، لكن لا أحد كان هناك.
فجأة، تحرّكت البركة.
ليس كأن شيئًا سقط فيها… بل كأن من فيها يريد الخروج.
أصابع. ثم كفّ.
ثم يد مغطاة بالفرو والماء.
ثم اختفت فجأة، كأنها لم تكن.
صوت الخشب يتكسر خلفه.
استدار بسرعة.
رأى شيئًا يمشي ببطء بين الأشجار.
ضخم. أضخم مما يجب.
لكن ما أرعبه… أنه كان لا يُصدر أي صوت.
لا زئير.
لا تنفّس.
لا حتى حفيف.
كأن الفراغ تحرّك في جسد.
جورا أطلق النار.
الرصاصة اصطدمت بشجرة.
لكن الكائن لم يتوقف.
اقترب أكثر… حتى رأى عينيه.
نفس العيون التي رآها في الطين.
عينا راغور.
لكن في قلبهما لم يكن هناك غضب…
بل حزن متجمّد.
جورا تراجع، وجسده يرتعش، قلبه يخفق، لكنه لم يهرب.
بل قال بصوت خافت:
– "أنا... أسمعك."
وفي لحظة واحدة...
توقّف كل شيء.
حتى الريح.
الغابة... استمعت أيضًا.

الفصل السابع: الزئير الأخير

الصمت هو ما يسبق العاصفة… لكنه أيضًا ما يسبق الفهم.
جورا لم يتحرك.
جورا لم يتكلّم.
هو فقط أصغى.
ومن بين السكون، سمع صوتًا لم يكن خارجيًا… بل يتخلّل خلاياه:
"لقد خنتني حين صمتّ عن موتي."
"حين تركتني أزأر وحدي، في حريقٍ خنق طفلي."
جورا شهق… لم يكن راغور يتحدّث إليه كمطارد، بل كماضي.
– "أنا… لم أكن هناك…" – همس، صوته مرتعش.
لكن الصورة كانت واضحة الآن.
كوخ محترق.
أصوات صرخات.
أسدٌ يزأر من الألم، لا من الغضب.
وطفل صغير، يقف في الظلّ… يختبئ، يخاف أن يصرخ، أن يشارك في الزئير.
ذلك الطفل… كان جورا.
وقع على ركبتيه. لم يعد الصياد القوي. لم يعد الجندي المتماسك.
كان فقط، طفلًا كبر بجسد رجل، وما زال صوته عالقًا في حنجرة الخوف.
– "كنت خائفًا..." – قالها أخيرًا.
فتحوّلت الغابة.
لم تعد مرعبة.
لم تعد مهددة.
بل… حزينة.
كل الأشجار بدأت تُصدر صوتًا خافتًا… ليس زئيرًا، بل كأنها تتنهد.
راغور اقترب.
وجهه أمام جورا مباشرة.
فمه مفتوح… لكن لم يكن هناك صوت.
ثم رفع مخالبه، ووضعها على صدر جورا، برفقٍ غريب.
نظرتاه التقَتا… وفي لحظةٍ لا يمكن وصفها…
انتقل الزئير.
نعم، لم يُسمع بصوت.
بل شعر به جورا في عظامه، في قلبه، في عموده الفقري.
وكأن الزئير كان نداءًا يُسلم من جيلٍ لآخر… لمن يستطيع تحمّل وجعه.
فتح جورا فمه.
ومن أعماق الروح، خرج زئير.
زئير أول، تبعه آخر.
فانشقّت الغابة.
سقطت الأشجار القديمة، وارتفع الطين في دوامة سوداء.
والسماء… بكت.
لكن حين انتهى الزئير…
لم يكن جورا موجودًا.
ولا راغور.
فقط بصمتان:
واحد محفور في الأرض… والآخر في الصدر.
في اليوم التالي، وجدت فرق الإنقاذ خوذة جورا ملقاة في الوحل، وبجانبها آثار ستة مخالب محفورة بعمق… كأن الأرض تريد أن تخلّد الذكرى.
ولم يُسمع زئير أسدٍ منذ ذلك اليوم.
ولا صمت… بنفس القسوة.

النهاية: حين يتحوّل الزئير إلى لعنة

هل استعاد جورا صوت الأسد… أم أصبح هو نفسه راغور الجديد؟
هل الزئير شفاء… أم انتقال للعنة؟ وهل الغابة حقًا خرج منها أحد؟
أبو ياسر المغربي
أبو ياسر المغربي
تعليقات