قصص طويلة تاريخية: خنجر المتمردين
مقدمة: بين الريح والظل
لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين متى شُيدت تلك القلعة
الحجرية، ولا من الذي بناها، ولا لماذا اختار هذا التل المنعزل موطنًا لها. وحدها
الأساطير كانت تتناقل بين أهل القرية الصغيرة الواقعة في أسفل الجبل، تحكي عن
“قلعة المتمردين”، وعن خنجر مفقود، وعن لعنة لم تكتمل.
كان الليل هناك مختلفًا. الريح لا تعصف كأي ريح، بل تحمل
معها أصواتًا، أنينًا مكتومًا، ضحكاتٍ خافتة تختلط بنحيب، كأنها أرواح ضائعة بين
الحجارة السوداء. وفي كل عام، حين يكتمل القمر بدراً، كان الضوء يلامس أعلى برج في
القلعة، فيبدو كأن المكان يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يغرق مجددًا في ظلام أبدي.
يتذكر علي بن مهند تلك الحكايات جيدًا. وهو طفل، كانت
أمه تحكيها له قبل النوم، بصوت مرتجف، وعينين لا تجرؤان على النظر إلى النافذة
المطلة على الجبل. لكنها في إحدى الليالي، توقفت عن روايتها فجأة. سكتت، ثم أغلقت
النافذة بعنف، وقالت له بصوت جاف:
“لا تسأل عن القلعة يا علي… لا تقترب منها أبدًا.”
لكن النهي كان بذرة. ومنذ تلك الليلة، لم يعد علي يحلم
بشيء سوى القلعة. رأى في منامه جدرانها المتشققة، أبوابها الموصدة، وخنجرًا وحيدًا
مغروزًا في حجر أسود، يقطر دمًا بطيئًا، كأن الزمن ذاته ينزف من نصلها.
مرت السنوات، وكبرت الأحلام معه، حتى صار شابًا تملأ
عينيه نار لا تخمد. وفي اليوم الذي دفن فيه والده، ذلك الرجل الغامض الذي لم يعرفه
جيدًا، وقف علي أمام قبره، وأخرج من جيبه شيئًا صغيرًا لُف بقطعة قماش سوداء.
فتحها ببطء، فإذا به الخنجر… ذاته الذي حلم به طوال طفولته.
كان مقبضه محفورًا بنقوش غريبة، ونصلُه يلمع بضوء خافت
كأنه يبتلع الضوء بدلاً من أن يعكسه. شعر علي بشيء يتحرك في داخله، إحساس ثقيل،
مزيج من الفضول والخوف، لكنه أقرب إلى الإدمان.
ومن تلك اللحظة، عرف أن طريقه واحد… إلى القلعة.
أمام جدار القبر، رفع الخنجر عاليًا، وسمع الريح تعصف،
كأنها تهمس باسمه. ابتسم، وقال لنفسه:
“إن كان القدر كتب لعائلتي هذه اللعنة… فسأكون آخر من
يحملها.”
وبخطوات ثابتة، بدأ صعود الجبل… نحو الظلام، نحو السر،
نحو خنجر المتمردين.
الفصل الأول: الهمسات في الظلام
لم يكن الطريق إلى القلعة مجرد صعود لجبل. كان عبورًا
إلى قلب الخوف ذاته. كل خطوة فوق الصخور المبللة كانت تصدر صوتًا مكتومًا، كأن
الأرض تخفي صدى الأقدام لئلا تزعج شيئًا لا يريد الاستيقاظ.
ارتفعت الريح، تحمل معها رائحة عفنة، مزيجًا من طين
قديم، ورطوبة، وشيء يشبه رائحة الحديد الصدئ… رائحة دمٍ جف منذ قرون. تساقطت أوراق
الأشجار اليابسة من فوقه، تدور حوله كأصابع ميتة تبحث عن جسدٍ تدفنه.
وقف علي بن مهند أخيرًا أمام البوابة الحجرية للقلعة.
كانت بوابة ضخمة، منحوتة عليها رموز لم يستطع تفسيرها، لكنها بدت له مألوفة بشكل
مزعج، كأنه رآها من قبل… في حلم، أو ربما في كابوس.
مدّ يده ولمس الحجر البارد. فجأة شعر بنبضة غريبة تمر في
أطراف أصابعه، تصعد ببطء إلى ذراعه، ثم إلى قلبه. تراجع خطوتين، لكنه شعر بالخنجر
في حزامه يرتجف قليلاً، كأنما يرد التحية لموطنه الأصلي.
رفع رأسه، نظر إلى البرج الأعلى، وهناك… لمح ظلًا يقف في
النافذة، ساكنًا، بلا ملامح واضحة، لكنه كان ينظر إليه. شعر بعينيه تتجمدان من
الرعب، ابتلع ريقه، لكنه لم يجرؤ على التراجع.
سمع صوت خطوات خلفه. استدار بسرعة، لكنه لم يرَ شيئًا.
فقط الريح، والأشجار التي انحنت كأنها تهمس له سرًا. ثم جاء الصوت مرة أخرى… أوضح
هذه المرة، أشبه بهمسة نسائية قريبة جدًا من أذنه:
“لا تدخل… الباب لا يعود يُفتح مرتين…”
التفت بجسده كله، يحدق في الفراغ، لكن لا أحد. حاول
إقناع نفسه أن الخوف يصنع الهلاوس، لكنه يعلم في قرارة نفسه أن الصوت كان حقيقيًا.
الخنجر ازداد ثقلًا في حزامه، كأنما يجذبه نحو الداخل.
تنفس بعمق، وضع يده على مقبض البوابة، وضغط بكل قوته.
صدرت صرخة حديدية عالية وهي تنفتح ببطء، تكشف ممرًا مظلمًا تملأه رائحة العفن
والرطوبة والموت. ومع أول خطوة داخل الظلام، شعر كأن شيئًا أغلق خلفه… ليس الباب
فقط، بل العالم كله.
مشاعره كانت خليطًا غريبًا: خوف ينهش صدره، وإصرار يقيده
كالسلاسل، وأمل خافت كجمرة تختبئ تحت الرماد. كل شيء بدا له مألوفًا وغريبًا في آن
واحد، وكأن روحه زارت هذا المكان من قبل… ربما عبر ذكريات لم تكن له وحده.
خاتمة الفصل:
ومع كل خطوة داخل الممر، كان صوت الهمسات يزداد وضوحًا…
كأن القلعة نفسها تحكي له قصة لم يحن وقت سماعها بعد.
الفصل الثاني: قاعة المتمردين
لم يكن الممر المؤدي إلى قاعة القلعة مجرد طريق مظلم.
كان أشبه بحنجرة وحش قديم، جدرانه متعرجة كأضلاع، ورطوبته تقطر من السقف مثل لعاب
بارد. تحت قدمي علي، كانت الأرضية ترن بصوت خافت مع كل خطوة، كأنها تخفي فراغًا
هائلًا أسفلها، ينتظر من يسقط.
كلما تقدم، اشتدت رائحة العفن، واختلطت بشيء آخر… رائحة
دخان، أو ربما رماد أجساد محروقة. لمس جدارًا بيده، فشعر بخشونة الحجر، لكنه كان
دافئًا على غير المتوقع… دافئًا بطريقة بشرية مخيفة.
وفجأة، ظهر أمامه بابٌ خشبيٌ هائل، نصفه محطم، يتدلى منه
لوح مكسور. دفعه بكتفه، فصدر صوت أنين طويل، وانفتح الباب ليكشف عن قاعة واسعة
غارقة في الظلال.
كانت الأعمدة الضخمة تملأ المكان، تتلوى إلى الأعلى
كأنها جذوع أشجار متحجرة. فوقها، تشققت أجزاء من السقف، فتسرب ضوء القمر كأشرطة
فضية تسقط على الأرض، مرسومة مثل خطوط دم قديمة. وفي قلب القاعة، رأى مائدة حجرية،
عليها خريطة متهالكة، أطرافها محترقة، ونقاط حمراء منتشرة عليها كدماء جفّت فوقها
منذ قرون.
لكن أكثر ما شد انتباهه كان التمثال. كان لرجل ضخم، يقف
بجانب المائدة، يحمل خنجرًا مشابهًا تمامًا لذلك الذي يحمله علي. عيني التمثال
كانت غائرتين، وفمه مفتوح كأنه يصرخ… أو يحذر.
اقترب علي ببطء، كل خطوة كأنها تُثقل ساقيه أكثر. مدّ
يده ولمس الخريطة، وعندها… اهتز الهواء حوله. شعر ببرودة تسري في جلده، وأصوات
خافتة بدأت تظهر من العدم:
“الخيانة… الخيانة… الخيانة…”
ارتجفت يده، ورفعها بسرعة، لكن الأصوات لم تتوقف. بل
اشتدت، وكأنها تخرج من جدران القاعة نفسها. ثم، وسط هذه الهمسات، جاء صوت خطوات…
خطوات خفيفة، تقترب ببطء، يرافقها طَنين معدني خافت، كصوت سكين يُجر على الحجر.
استدار بحدة، ونظر نحو الظلال. هناك، على حافة الضوء،
وقفت امرأة مقنعة. كان قناعها فضيًا، تعكسه أشعة القمر، وعيناها تلمعان تحت الظل
كجمرتين صغيرتين. لم تتحرك. لم تتكلم. فقط وقفت هناك، تراقبه بصمت ثقيل.
ظل علي يحدق بها، يحاول أن ينطق، لكن حلقه جف. فجأة،
رفعت يدها، وأشارت إلى الخنجر في حزامه، وقالت بصوت هادئ كنسيم بارد:
“إنه ينتظرك… لا تظن أنك تحمل الخنجر… هو من يحملك.”
مع هذه الكلمات، شعر علي بشيء يتحرك داخل الخنجر… نبض
بطيء، عميق، كأن الخنجر قلب ينبض. حاول لمسه، لكن حرارة غريبة انتقلت إلى جلده،
حتى اضطر أن يسحبه بعيدًا.
خاتمة الفصل:
نظرت إليه المرأة طويلًا، ثم استدارت، ودخلت في الظلال،
تاركة علي وحده مع الخريطة، والتمثال، والخنجر… ومع إحساس ثقيل أن ما بدأ الليلة…
لا يمكن إيقافه.
الفصل الثالث: أثر الدماء
وقف علي بن مهند وحده في قاعة المتمردين، يحدق بالخريطة،
بينما كانت ظلال الأعمدة تتحرك مع الريح القادمة من ثقوب السقف، ترسم وجوهًا
وأشكالًا بدت كأشباح تحيط به. لم يكن الصوت الوحيد هو صوت قلبه، بل كان هناك خفق
خافت… قادم من الأرض ذاتها.
نظر إلى الخريطة مجددًا. كانت الخطوط الحمراء تتصل
ببعضها، ترسم دائرة غامضة حول القلعة. عند مركزها، نقطة سوداء، محفور فوقها رمز
يشبه عينًا مفتوحة. أحس بشيء يجذبه نحوها، كأنها تناديه باسم لا يعرفه، لكن يعرف
أنه له.
اقترب من المائدة، لكن فجأة… قطرة دم سقطت فوق الخريطة.
تجمد في مكانه. رفع عينيه نحو السقف، حيث كان أحد الثقوب يقطر منه سائل أحمر داكن،
كثيف، بطيء، يلمع بضوء القمر كمرآة جهنمية.
ابتعد خطوة، لكن الدم بدأ يتساقط بغزارة، ينسكب على
الخريطة، يغطيها، حتى اختفت معالمها كلها، ولم يبقَ إلا اللون الأحمر. ثم سمع
الصوت… همس عميق، بدا كأنه يأتي من تحت الأرض، من داخل الجدران، أو من داخل دمه
نفسه:
“كل دمٍ هنا له ثمن… كل خيانة لها ختم.”
ارتعد جسده. بدأ الدم ينساب من المائدة نحو الأرض، يرسم
مسارًا أحمر يقوده نحو التمثال. لم يكن مجرد سائل… كان يكتب شيئًا، كلمات بلغة لم
يفهمها، لكنها بدت مألوفة بطريقة مزعجة.
اقترب من التمثال، وعندما وقف أمامه، رأى تحت قدميه
نقشًا حجريًا بدأ يضيء بضوء أحمر داكن، وأحس فجأة بثقل غريب على كتفيه، كأن أحدًا
وضع يديه عليهما. استدار سريعًا… لا أحد.
لكن صوت المرأة المقنعة عاد، هذه المرة من مكان قريب
جدًا، قريب لدرجة أنه شعر بنَفَسها يلامس رقبته:
“الليلة، يا ابن مهند… إمّا أن تحمل لعنتك… أو تحررها.”
حاول الإمساك بالخنجر، لكنه فوجئ أن الخنجر لم يعد في
حزامه. تلفّت حوله بلهفة، لكن الخنجر لم يكن معه… بل كان مزروعًا الآن في صدر
التمثال.
وعندما نظر إليه، فتح التمثال عينيه.
لم يكن حجرًا. لم يكن ميتًا. كان ينتظر فقط اللحظة
المناسبة ليستيقظ.
صدر التمثال ارتجف، ثم بدأ يتحرك، تصدر مفاصله أصوات
طقطقة مخيفة كعظام قديمة تعود للحياة. رفع يده ببطء، وأمسك مقبض الخنجر، ثم نزعه
من صدره ببطء، بينما الدم يتدفق من الجرح الحجري… دم أسود، أكثر ظلامًا من الليل
نفسه.
ونظر التمثال إلى علي، وقال بصوت أجش، مليء بالحقد
والألم:
“أعدتَ لي خنجري… والآن، اعد لي دمي.”
خاتمة الفصل:
خطى التمثال نحوه، وفي كل خطوة، كانت الأرض تهتز،
والجدران تتشقق، والظلام يزداد كثافة… وعلي لم يكن يملك سوى سؤال واحد يصرخ
بداخله:
“هل أنا المتمرد… أم الضحية؟”
الفصل الرابع: الممرات السرية
تراجع علي بن مهند خطوةً، ثم أخرى، بينما كان التمثال
يخطو نحوه ببطء، كل حركة تصدر ارتجاجًا خافتًا في الأرض، كأن القلعة بأكملها تنبض
مع كل خطوة، كأنها تتنفس، تستيقظ، تراقب.
أراد الهروب، لكن الممر خلفه انغلق بجدار حجري، ظهر
كالسحر، بلا صوت، بلا حركة، فقط… أُغلق.
التفت ناحية التمثال، فوجده قد توقف، رافعًا الخنجر، نظر
إليه بعينيه الغارقتين في السواد، ثم قال بصوت عميق كصدى الكهوف:
“كل الطرق تُغلق… إلا طريق الدم.”
وفجأة، ضرب التمثال الخنجر في الأرض. انشق البلاط تحت
قدميه، وانفتحت فتحة مظلمة كفم جائع، يبتلع الضوء والهواء. اندفع منها دخان أسود
كثيف، ذو رائحة تشبه الجلود المحروقة، دموع أجيال دفنت هنا.
وقف علي مذهولًا. ثم، من وسط الدخان، ظهر درج حجري يهبط
إلى أعماق الأرض. سمع من الأسفل أصواتًا بعيدة… طنين، بكاء، ضحك مجنون… همسات أناس
فقدوا عقولهم.
حاول أن ينظر إلى التمثال، لكنه لم يكن موجودًا. اختفى…
وكأن الأرض ابتلعته.
لم يبقَ أمامه سوى الدرج. لم يكن خيارًا. كان قدَرًا
مرسومًا بخيوط الدم والخيانة.
نزل أول خطوة، أحس برطوبة لزجة تلتف حول كاحليه، ثم برد
شديد، كأن الأرض نزعت كل حرارة من جلده. كل خطوة كانت تُقرِّبه من عمق لا يعلم
نهايته.
بدأت الجدران من حوله تضيء بخطوط حمراء رفيعة، مثل عروق
تنبض تحت الجلد. لمسها بيده، فأحس بحرارة خفيفة، لكنها نبضت تحته، كأنها حية.
في نهاية الدرج، وصل إلى ممر طويل، جدرانه مغطاة برسومات
قديمة، بعضها باهت، بعضها واضح، كلها تحكي قصص معارك، خيانات، رجال مقطوعي الرؤوس،
نساء تحمل الخناجر، أطفال يصرخون.
لكن وسط كل هذه الصور، كان هناك وجه واحد يتكرر. وجه رجل
عيونه مظلمة، شفاهه مشدودة، يحمل خنجرًا بيده… والصدمة؟ الوجه كان يشبهه تمامًا.
توقف. اقترب أكثر. لم يكن خطأ في الرؤية. كان يرى وجهه
محفورًا على جدار عمره مئات السنين.
شعر بصوت ينبعث من خلفه، صوت المرأة المقنعة، هذه المرة
أقرب من أي وقت:
“أخبرتك يا علي… الدم لا ينسى… واللعنة لا تختار… إنها
تعرف أصحابها.”
استدار سريعًا… لكن الممر كان فارغًا.
ثم، من العدم، سمع صوت الخنجر يضرب الحجر مجددًا… قادمًا
من أمامه.
خاتمة الفصل:
خطا علي خطوة نحو الصوت، وقلبه يخفق بسرعة مجنونة، بينما
كان يهمس لنفسه:
“أنا هنا… لكن لماذا أشعر أنني كنت هنا دائمًا؟”
الفصل الخامس: طقوس الدم
تقدم علي بن مهند خطوة أخرى داخل الممر، بينما كان صوت
الخنجر يزداد وضوحًا، يطعن الأرض بإيقاع ثابت، كأنه يدق ساعة موت قديمة، تعد
الثواني حتى النهاية.
الجدران من حوله بدأت تتغير. لم تعد رسومات فقط، بل
تحولت إلى نقوش ثلاثية الأبعاد، وجوهٌ تبرز من الحجر، أيدٍ تمتد من الجدران، كأنهم
محبوسون داخلها، يطلبون الخلاص… أو يسحبونه معهم.
لامست يد حجرية كتفه، ارتجف، ابتعد بسرعة، لكن اليد ظلت
مكانها، كأنها مجمدة في لحظة طلب النجدة.
ثم، عند نهاية الممر، ظهر باب معدني ضخم، عليه دوائر
متداخلة، ورموز لم يرها من قبل، لكنها بدت مألوفة… كأنها من ذاكرة قديمة، ذاكرة
ليست له، لكنها تعيش داخله.
اقترب، ووضع يده على الباب. فجأة، أضاء الرمز الأوسط
بضوء أحمر خافت، وسُمع صوت صرير طويل، فتح الباب ببطء، كاشفًا عن قاعة ضخمة، مضاءة
بشعلة واحدة في السقف، تهتز كقلب يحتضر.
في وسط القاعة، كان هناك دائرة حجرية مرسومة بدماء جافة،
وفي قلبها… الخنجر. مغروس في صخرة سوداء، حوله أربعة تماثيل لرجال يحملون سيوفًا
مكسورة، وجوههم مغطاة بالأقنعة.
لكن على الأرض، آثار أقدام دامية، تقود إلى داخل
الدائرة.
شعر علي بشعور ثقيل في صدره، كأن قلبه يحاول أن يهرب من
قفصه. كل شيء في داخله كان يقول له “اهرب”، لكن قدميه تقدمان إلى الأمام دون
إرادة.
سمع الصوت مجددًا… صوت المرأة:
“ادخل، يا ابن مهند… الخنجر لا يُؤخذ… الخنجر يختارك.”
اقترب من الدائرة، لاحظ أن الأرض مغطاة بكتابات حمراء،
تلمع تحت ضوء الشعلة كجروح مفتوحة.
رفع الخنجر من الصخرة. شعر بحرارة قوية تسري في ذراعه،
كأن النار تشتعل في عروقه.
ثم… بدأت التماثيل تتحرك.
أول تمثال رفع سيفه المكسور، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم
الرابع… كلهم استداروا نحوه، وأخذوا يقتربون، ببطء، بخطوات ثقيلة، وصوت احتكاك
الحجر بالأرض يملأ القاعة.
صوت المرأة عاد، هذه المرة بهمس قاتم:
“لا طريق للرجوع… الدم دَين… والخنجر القاضي.”
خاتمة الفصل:
وقف علي داخل الدائرة، الخنجر بيده، والتماثيل تقترب،
وأدرك أن الدماء التي رسمت هذه الدائرة… لم تكن ضحايا فقط… كانت وعودًا، كُتبت بدم
أصحابها… وهو الآن، واحد منهم.
الفصل السادس: همسات الحجر
وقف علي بن مهند وسط دائرة الدم، والخنجر في يده يرتجف،
كأن له نبضًا خاصًا… كأن الحديد نفسه حيٌّ تحت جلده.
اقتربت التماثيل أكثر، ظلالها ترتفع على الجدران
كالوحوش، عيونها الحجرية بدأت تتوهج بضوء أحمر خافت، وكل خطوة تقرِّبهُم، كأنهم
يسحبون الهواء من القاعة، وكأن الظلام يبتلع كل شعاع.
رفع علي الخنجر أمامه، شعر بقوة غريبة تسري في ذراعه…
لكنها ليست قوته، بل قوة شيء آخر، شيء قديم، شيء يراقبه من وراء الحجارة.
ثم… توقف التماثيل فجأة، وجثوا على رُكَبهم، سيوفهم
المكسورة غرست في الأرض أمامهم.
وسمع صوتًا جديدًا… هذه المرة ليس همس المرأة، بل صوت
رجولي، عميق، يُشبه صرير الحديد والرماد:
“أخيرًا… وريث الدم… حامل الخنجر… أتيت.”
نظر حوله، لكنه لم يرَ أحدًا. الصوت كان يأتي من كل
مكان… من الجدران… من الأرض… من داخل رأسه.
ثم انشقت الأرض وسط الدائرة، وظهر درج ينزل إلى ظلام
أسود مطلق… ظلام لا تشقه شعلة، لا تلمسه عين.
التماثيل رفعت رؤوسها ببطء، ثم بدأت تدق سيوفها على
الأرض… إيقاع بطيء، ثقيل، يهز القاعة كلها، كطبول جنائزية… كاحتفال بتتويج ملك… أو
دفن إله.
تردد علي. قلبه يخفق كطبلة مكسورة… عرقه يتصبب، حنجرته
جافة، يديه متصلبتان حول الخنجر.
لكن صوت الرجل عاد، هذه المرة أقرب… أقرب حتى أحس به خلف
أذنه:
“انزل، يا ابن مهند… انزل إلى حيث بدأ كل شيء… حيث الدم
الأول… حيث وُلد الخنجر… وحيث ينتظرك قدرك.”
تقدم علي نحو الدرج… خطا أول خطوة، شعر أن الظلام يلف
قدمه كعباءة باردة… كل خطوة أسفل تأخذ منه شيئًا… ذاكرة… شعور… حلم قديم.
وكلما نزل، ابتعد صوت التماثيل… وازدادت الهمسات. همسات
نساء… رجال… أطفال… همسات لم يكن يفهمها، لكنها كانت تشق قلبه، تملأه برغبة غريبة
للبكاء، للصراخ، للهروب… لكنه استمر.
في أسفل الدرج، فتح باب حجري ضخم، محفور عليه:
“هنا يولد الخنجر… وهنا يموت الدم.”
ودخل.
ما رآه لم يكن ممكنًا… لم يكن مقبولًا… لم يكن بشريًا.
خاتمة الفصل:
كانت القاعة مليئة بجثث معلقة بالسلاسل، وأمام كل جثة…
خنجر مغروس في قلبها.
لكن في نهاية القاعة، على عرش من العظام… جلس الرجل
المقنع… يحمل نفس وجهه.
الفصل السابع: عرش العظام
دخل علي بن مهند القاعة ببطء، خطواته ترتجف فوق الأرض
الحجرية، المبللة بسائل داكن لزج، له رائحة حديد وزهر ذابل… رائحة الدم القديم.
الجثث المعلقة على السلاسل تتأرجح بلا ريح، تصدر صريرًا
خافتًا، كأنها تهمس ببقايا كلمات ماتت منذ قرون.
وفي نهاية القاعة، جلس الرجل المقنع على عرشٍ عظيم،
مكوَّن من عظام بشرية متشابكة، عظام أطفال ونساء ورجال، بعضها صغير، بعضها طويل،
بعضها مشقوق… كلها بيضاء تلمع بضوء باهت، كأنها تنزف ضوءها الأخير.
رفع الرجل المقنع رأسه، ونظر نحوه، كان قناعه أسودًا
لامعًا، بلا ملامح، فقط خطان طويلان يشبهان الدموع الحمراء نزلا من مكان العينين.
ثم تكلم… صوته كان كحفيف أجنحة خفافيش… كأن آلاف الأرواح
تتحدث معًا من خلاله:
“وصلت، يا ابن مهند… كنت أعلم أنك ستأتي… الخنجر كان
ينتظرك منذ أول نقطة دم سالت في سلالة جدودك.”
تقدم علي، والخنجر في يده يزداد حرارة، كأن النار تسري
في العظم نفسه.
سأل بصوت مبحوح:
“من أنت؟ ولماذا وجهي على جدرانكم؟”
ضحك الرجل، ضحكة كشطت سقف القاعة، فتساقط منها تراب أسود
ورماد دافئ، كأن السقف نفسه بكى ضحكه.
ثم قال:
“أنا أنت… أنت أنا… نحن امتداد لبعضنا، أنت الصورة… وأنا
الأصل.”
رفع الرجل المقنع يده، وفجأة انفتحت عيون الجثث المعلقة،
كلها… مئات العيون، كلها تنظر إليه، كلها تحمل نفس عينيه!
“أنظر إليهم، يا علي… كلهم… أنت!”
ارتعش علي، شعر ببرودة رهيبة تخترق جلده، تصل إلى عظامه،
ترعش قلبه.
بدأت الجثث تتحرك… أذرعها ترتفع، أصابعها تشير إليه…
أفواهها تفتح، تصدر صوتًا واحدًا… همهمة جماعية… ترتفع… ثم تتجمع في كلمة واحدة:
“الخنجر… الخنجر… الخنجر…”
سقط علي على ركبتيه، الخنجر يشتعل في يده الآن، لهيب
أحمر يلتف حول نصلٍ أسود.
رفع رأسه نحو الرجل المقنع، صرخ:
“ماذا تريد مني؟!”
نهض الرجل المقنع عن عرش العظام، خطا خطوة للأمام، وفي
كل خطوة… ذابت العظام تحته، انمحى العرش، كأنه لم يكن…
قال بصوت أكثر هدوءًا… لكن أكثر رعبًا:
“أريد دمك… لا… أريد ذكرياتك… لا… أريدك… أنت. الخنجر
ليس أداة… الخنجر باب… وبابك قد فُتح.”
ثم مد يده، وفتح ذراعيه، وقال:
“تعال، يا ابن الدم… اكمل الدائرة.”
خاتمة الفصل:
وقف علي، الخنجر يشتعل في يده، وكل شيء من حوله يدعوه
خطوة… خطوة نحو المجهول.
وأدرك في تلك اللحظة…
أنه لم يكن يسعى خلف الخنجر… بل الخنجر هو من كان يسعى
خلفه.
الفصل الثامن: نهاية الخنجر
وقف علي بن مهند في وسط القاعة، والخنجر في يده يشتعل
بلون لم يره من قبل… لون ليس أحمر، ليس أسود، لون كالحلم… لون كالنسيان.
كان الرجل المقنع يقترب منه، خطواته بلا صوت، بلا ظل،
بلا وزن… لكنه يملأ المكان كأنه الجبل.
قال الرجل، وصوته كريح تهب من مقبرة قديمة:
“تعال، يا ابن مهند… انضم إلينا… سَكّن الخنجر… أنهي
الدائرة.”
لكن علي لم يتحرك.
نظر إلى الخنجر… إلى اللهب… إلى الجثث… إلى عيونها… إلى
صدى الكلمات التي ما زالت تتردد في الجدران: الخنجر… الخنجر… الخنجر…
ثم سمع صوتًا خافتًا… ليس من الخارج… بل من داخله… صوت
والدته… تلك الهمسة التي اعتاد سماعها صغيرًا قبل النوم:
“لا تدعهم يأخذون قلبك، علي… مهما كان الظلام… لا تسلم
قلبك.”
ارتعش علي… رفع الخنجر عاليًا… ثم بدل أن يسلمه للرجل…
غرسه في صدره.
صرخة مزقت القاعة، صرخة ليست صوته وحده، بل صرخة كل
الوجوه التي على الجدران، كل الجثث المعلقة، كل الظلال… كلهم صرخوا معه، كأن
الطعنة حررتهم جميعًا.
بدأت الجدران تتشقق… الأرض تهتز… التماثيل تنهار… الرجل
المقنع يتراجع، يصرخ، يذوب…
صوت انفجار مدوٍّ ملأ المكان، ثم كل شيء اختفى.
استيقظ علي في صحراء شاسعة، تحت شمس حارقة، الرمال تمتد
بلا نهاية.
يده خالية… لا خنجر… لا دم… لا جدران… لا أصوات.
لكن عندما نظر إلى صدره… كان هناك ندبة بشكل الخنجر،
متوهجة بنور خافت… كأنها لم تغلق بعد.
سمع الريح تهمس… نفس الكلمة…
“الخنجر…”
النهاية:
وقف علي ينظر إلى الأفق، يعلم أن القصة لم تنتهِ…
لأن بعض الأبواب، حتى لو أغلقتها… تظل مفتوحة في مكان آخر.