خطوات على الرمال
🏜️ الفصل الأول: الصدى الذي لا يموت
مقدمة:
كانت الشمس تغيب على استحياء خلف كثبان رملية ضخمة في منطقة نائية من الصحراء الكبرى، حيث لا يُسمع سوى صفير الرياح وصرير الرمال تحت وقع الأقدام. في تلك اللحظات الأخيرة من النهار، كان رجل يسير وحده، يجر وراءه حقيبة جلدية قديمة، وعيناه تمسحان الأفق وكأنهما تبحثان عن شيء فقد منذ زمن بعيد.
لم يكن المشهد غريبًا على «سليم»، ذلك الصحفي المغامر الذي كان يؤمن بأن الحقيقة لا تُكتب خلف المكاتب أو بين جدران المدن، بل تُستخرج من قلب المجهول. وما هو أكثر غموضًا من صحراء تمتد إلى ما لا نهاية؟
المشهد:
سليم، في أواخر الأربعينات من عمره، كان قد قرر التقاعد عن الحياة الصحفية الاعتيادية بعد عشرين عامًا من التنقل بين العواصم، ملاحقًا الأخبار والفضائح السياسية. لكن شيئًا في داخله لم يهدأ. لم يكن هدوء البحر بعد العاصفة، بل سكونًا مخيفًا يسبق شيئًا أكبر.
كل شيء بدأ برسالة إلكترونية قصيرة. لا عنوان، لا توقيع، فقط جملة واحدة: "إن أردت الحقيقة، تعال إلى الرمال. إنها تحفظ كل شيء."
ظل يعيد قراءتها مرارًا، يشعر أنها موجهة له شخصيًا. فبدأ يبحث عن مرسلها، لكن لا أثر. مصدرها غير معروف، خوادم مشفرة. لم يكن سليم يؤمن بالصدف، لذا قرر أن يخوض التحدي.
سافر إلى الجزائر، ومنها إلى منطقة حدودية قاحلة باتجاه الجنوب. استأجر سيارة دفع رباعي ودفع مالًا جيدًا لرجل يُدعى موسى، دليل بدوي يعرف الصحراء كما يعرف أسماء أولاده. موسى كان رجلاً صامتًا، لكن نظراته تحكي الكثير. كان يرمق سليم بنظرة ملؤها تساؤل: هل هذا الرجل يعي حقًا أين يذهب؟
في اليوم الأول من الرحلة، سارت الأمور بشكل طبيعي. الصحراء بدت كأنها تنام في كنف السماء. الرمال الناعمة، الحرارة القاسية، والرؤية الممتدة حتى الأفق. أما موسى، فكان يقود بثقة، يتحدث قليلاً، لكن كلما تحدث أضاف للمكان عمقًا.
قال موسى ذات مرة: "بعض الأماكن هنا ليست للناس."
رد عليه سليم وهو يدون ملاحظاته: "لكن الناس مرّوا منها، أليس كذلك؟"
أجابه: "مرّوا، نعم. لكن ليس كل من مرّ... عاد."
كان ذلك في الليلة الأولى حين خيّما قرب كثيب ضخم. جلسا حول نار صغيرة، تناولوا القليل من التمر والماء، وتبادلوا بعض الأحاديث عن القبائل القديمة، عن قوافل الحج التي كانت تعبر هذه الأرض. قال موسى بهدوء: "في هذه الرمال قصص لم تُكتب بعد، وأصوات ما زالت تنتظر من يسمعها."
لكن في صباح اليوم التالي، استيقظ سليم ليجد نفسه وحده. لم يكن هناك أثر لموسى، سوى آثار أقدام تمتد بعيدًا في الرمال، ورسالة كُتبت على صخرة قريبة بالفحم: "عد أدراجك، الصحراء لا تُسامح."
وصف المكان:
المنطقة كانت مخيفة بجمالها. الرمال تمتد على مدّ النظر، تصنع موجات ذهبية متعرجة، تعكس أشعة الشمس بنبض حي. كل كثيب يبدو كأنه يخفي سرًا. لا وجود لأي شجرة، لا طائر في السماء. فقط سليم، وصوت الرياح، وأثر مجهول يقوده نحو عمق الغموض.
كلما تقدم خطوة، شعر أن الرمال تبتلعه قليلًا، كأنها تقاومه، ترفض دخوله. في الليل، كانت السماء مليئة بالنجوم، لكنها باردة قاسية. وكان صوت الرياح يتحول إلى همسات، كأن الصحراء تتكلم بلغة لا يفهمها.
وصف المشاعر:
في البدء، شعر بالغضب من موسى. خيانة؟ أم هلع؟ ثم بدأ الخوف يتسرب، ليس من العطش أو الضياع، بل من أن شيئًا ما أكبر من فهمه يتحرك في الخفاء. مع كل خطوة، كان داخله يتأرجح بين الإثارة والرهبة.
وبينما كانت الشمس في كبد السماء، شعر بدوار، كأن حرارة الأرض تسحب منه الطاقة. جلس على ركبتيه، أغمض عينيه، وتذكر وجه أمه. لم يكن ذلك طبيعيًا. شيء في هذه الأرض يستدعي الذكريات، يفتح الأبواب القديمة.
ثم بدأ يشعر أن شيئًا يراقبه. ليس بشريًا. ليس حيوانًا. فقط إحساس بأنك لست وحدك. تلك اللحظة، تغير شيء في داخله. لم يعد يبحث فقط عن الحقيقة، بل عن النجاة.
أحداث مشوقة:
في اليوم الثالث، بينما كان يتسلق أحد التلال الرملية، لمح آثار أقدام. لم تكن له. كانت ضيقة، دقيقة، كأنها لامرأة أو طفل. الأثر يتجه جنوبًا، بشكل مستقيم لا يُصدق، كأن من مشى فوق الرمال كان يعرف تمامًا إلى أين يذهب.
تتبعها سليم بحذر. ظل يسير لساعات دون أن يبتعد عنها. لكن فجأة، انتهت الأثر. اختفى. لا آثار رياح، لا تداخل. فقط توقف فجائي. وقف هناك مذهولاً. التقط صورة، دوّن ملاحظات، لكنه بدأ يشعر أن المنطق قد تخلى عنه.
ثم، قبيل الغروب، رأى خيالًا يتحرك قرب كثيب قريب. ركض نحوه. لا شيء سوى قطعة قماش رمادية ممزقة، عالقة في شوكة صخرية. كانت مبللة بالعرق، وعليها آثار دم قديم.
في الليل، سمع خطوات قرب خيمته. خرج بسرعة، لكنه لم يجد أحدًا. الرمال حوله ساكنة. لكن الأغرب: كانت هناك خطوات واضحة تُحيط بمكان نومه. لم تكن موجودة من قبل.
في صباح اليوم الرابع، وجد عند باب خيمته قطعة حجر ناعمة، وعليها نُقش نفس الرمز الذي كان موجودًا في الرسالة الأولى.
الخاتمة:
في نهاية هذا الفصل، وقف سليم على قمة كثيب رملي شاهق. نظر خلفه، فلم يرَ أي أثر لخطواته. كأن الأرض امتصت وجوده. قال بصوت خافت، ويده على جبينه لتقيه الشمس: "الصدى لا يموت... حتى لو صمت الصوت."
ثم أدار وجهه نحو الأفق، نحو الشمس التي بدأت تهوي ببطء خلف كثبان بعيدة، وتابع سيره، غير مدرك أن كل خطوة على الرمال،
🌒 الفصل الثاني: الليل لا يعترف بالوحدة
مقدمة:
بعد أن استيقظ سليم ليجد نفسه وحيدًا في قلب الصحراء، بدأت الرحلة الحقيقية. ليست رحلة نحو مكان، بل رحلة داخل الظلال العميقة التي تسكن داخله، والظلام الذي يبتلع الرمال ليلًا. في هذا الفصل، يواجه سليم الليل لأول مرة دون رفيق، ولا إشارات، سوى ومضات من ماضيه، وخيالات تتراقص حول خيمته.
الدخول في الغموض:
في أول ليلة يقضيها وحده في أعماق الصحراء، بدأ الليل يُسدل ستاره الأسود الثقيل ببطء. الشمس التي كانت قبل ساعات تلفح وجهه، اختفت خلف الأفق، وبدأ البرد ينخر عظامه. جلس على الأرض، قرب خيمته، يوقد النار بيد مرتعشة. لم يكن يعرف إن كانت رعشة برد، أم خوف، أم خليط من الاثنين.
السماء فوقه كانت صافية، مليئة بالنجوم، تلمع بشدة غير مألوفة. كأنها تراقبه. شعر أن كل نجم يحمل عينًا، وكل نسمة ريح تحمل همسة. أغلق عينيه للحظات محاولًا تهدئة قلبه، لكن الذكريات تدفقت كما الماء في شقوق جافة.
تذكر ابنه كريم، حين كان صغيرًا، يخاف من الظلام. كيف كان سليم يسخر منه؟ الآن، في حضن هذه الصحراء الشاسعة، فهم معنى الخوف الحقيقي من الظلمة. الظلمة التي لا يمكنك لمس نهايتها.
وصف المشهد:
الرمال تغيّر لونها في الليل. لم تعد ذهبية. أصبحت رمادية كالعظام. سكون مطبق، لا طائر، لا حشرة، لا حفيف شجر. فقط همسات الهواء، وصوت قلبه الذي يتسارع. صمت الصحراء ليس مثل صمت المدن، هو صمت حي، كأن الأرض تختزن فيه أسرار من سبقوه.
كانت خيمته الصغيرة تنبض بخوفه، كأنها تعرف أنه وحيد. أراد أن ينام، لكنه كلما أغمض عينيه، سمع الأصوات.
أول مرة، كان الصوت همسًا بعيدًا، أشبه بزفرات. ثم تحول إلى تمتمات. كلمات غير مفهومة، كأنها تخرج من عمق الرمال. لم يرد أن يصدق، لكنه سمعها.
الحوار الداخلي:
قال لنفسه: "أوهام... إنها فقط أوهام. التعب والجوع والقلق..."
لكنه لم يكن مقتنعًا. حمل المصباح وتوجه خارج الخيمة. أضاء محيطه ببطء. الرمال ساكنة، لا أثر. لكن عند قاعدة الكثيب، كانت هناك ظلال متحركة. ليس ظل شجرة، ولا إنسان. كأن الرمل نفسه يتحرك.
ركض باتجاه الظل، لكن ما إن اقترب حتى اختفى. بقي هناك، يحمل المصباح في يد، والمفكرة في اليد الأخرى، ويفكر: "هل أسجل هذا؟ أم أنني بدأت أفقد عقلي؟"
فتح دفتره وكتب: "ليلة أولى وحدي. الصحراء تنبض بلغة لا أفهمها. بدأت أسمع ما لا يُسمع. أشعر أن شيئًا أو أحدًا، لا ينام في هذه الرمال."
أحداث مشوقة:
في منتصف الليل، وبينما كان يسجل ملاحظاته، سمع الخطوات مرة أخرى. خطوات واضحة تقترب من الخيمة. قلبه قفز. حمل سلاحه الصغير وخرج بسرعة. كان الضوء محدودًا، لكن رأى شيئًا...
على بعد أمتار، بين الكثبان، كانت هناك هيئة بشرية، واقفة بلا حراك. ظل رمادي طويل، كأنه تمثال من الرمل. ناداه: "من هناك؟"
لم يجب.
خطا خطوة نحوه، فتراجع الظل ببطء، ثم اختفى خلف الكثيب.
لاحق الظل. صعد الكثيب بسرعة، لكن لا أحد. فقط الرمال، وبعض الأحجار. وبين الأحجار، وجد قلادة معدنية صغيرة، محفور عليها الرمز نفسه الذي وجده على الحجر في الصباح.
عاد إلى خيمته، مرعوبًا، لكنه محتفظ باتزانه. أمسك القلادة، تفحصها، ثم دسّها في جيب سترته. كتب في مفكرته: "أنا متأكد الآن... هناك شخص أو شيء يتتبعني. لكنه لا يريد قتلي. يريدني أن أستمر."
وصف المشاعر:
التوتر كان يتصاعد داخله، لكنه بدأ يشعر بالإثارة أيضًا. كأن هذه الرحلة لم تعد فقط بحثًا عن مرسل الرسالة، بل صراعًا مع شيء غامض، عتيق، غير بشري.
بدأت الأسئلة تحاصره: من أرسل الرسالة؟ ولماذا هذه الرموز؟ هل موسى كان يعرف ما سيحدث؟ ولماذا تركه؟ هل هذه الظلال حقيقية أم هلوسات؟
وبينما كان جالسًا على الرمال، يحدق في النار التي أوشكت على الانطفاء، همس لنفسه: "ربما كان عليَّ الاستماع لتحذير موسى... ربما هذه الرحلة ستأخذ مني أكثر مما أتصور."
ثم، كما لو أن الرمال سمعت كلماته، بدأت الرياح تعصف فجأة، واندفعت ذرات الرمل لتغمر الخيمة.
عاصفة في الظلام:
استيقظ من نوم متقطع على صوت زئير. خيمته تهتز بعنف، والرمال تتدفق من كل جانب. خرج مسرعًا يثبت أوتادها، لكن الريح كانت قوية. لم يرَ شيئًا. كل ما حوله كان عاصفة من الرمل والغبار.
حاول أن يثبت نفسه، لكنه سقط مرارًا. ثم، وسط الفوضى، لمح نفس الظل مجددًا، واقفًا وسط العاصفة. هذه المرة لم يهرب. وقف يتأمله. الظل اقترب، وبدأت ملامحه تتشكل: كان رجلًا، يرتدي عباءة بيضاء، وجهه غير واضح، لكن عيناه تلمعان كجمريتين.
قال سليم بصوت مرتجف: "من أنت؟"
لكن الرجل لم يرد. أشار فقط بيده إلى اتجاه معين في الأفق، ثم اختفى وسط الرمال.
خاتمة الفصل:
حين انتهت العاصفة، وجدت الرمال قد غطت كل شيء تقريبًا. خيمته تهدمت، أدواته مبعثرة، لكن الأغرب: كانت هناك على الرمال علامات واضحة لخطى كثيرة. أقدام بشرية، تتحرك باتجاه واحد: الجنوب.
جمع ما تبقى من معداته، وأعاد تثبيت خيمته المؤقتة، لكنه لم يستطع النوم. كان على يقين أن الليل في هذه الأرض ليس وقت راحة، بل مسرح لأرواح لا تنام.
كتب في دفتره قبل أن يغفو: "أشعر أني دخلت عالمًا بين الحياة والموت. الليل هنا لا يعترف بالوحدة، بل يملؤها بكائنات أقدم من الزمن. سأتابع السير غدًا جنوبًا. ذلك الرجل يريدني أن أراه، أو أن أتبع خطاه."
🌘 الفصل الثالث: إشارات على الطريق
مقدمة:
بعد ليلةٍ مرعبة مليئة بالظلال والعواصف والرموز الغامضة، استيقظ سليم مع أول خيوط الفجر وهو يشعر بشيء مختلف. لم تكن الشمس فقط ما أزاح الظلام، بل شعور داخلي جديد بالتحدي. لم يعد الخوف وحده المسيطر، بل شيء أشبه بالفضول الممزوج بالعزيمة. لقد رأى ما يكفي ليؤمن أن هذه الرحلة لن تكون فقط مغامرة بدوية في الرمال، بل ستكون امتحانًا، وربما خلاصًا.
بداية المسير:
جهز ما تبقى من معداته، نظف عدسة منظاره من الغبار، وألقى نظرة أخيرة على القلادة ذات الرمز الغامض. كانت ما تزال هناك في جيبه، ثقيلة رغم صغرها. ترك مكان خيمته متجهًا نحو الجنوب، باتجاه العلامة التي أشار إليها الرجل الغامض ليلة الأمس.
كانت الشمس تشرق ببطء، ورمال الصحراء تلمع كأنها سطح مائي. سار فوقها بخطى ثابتة، يراقب الأفق، وكل بضع خطوات، كان يتوقف، يتفحص الأرض، يبحث عن أي إشارات جديدة.
بعد مسيرة دامت أكثر من ثلاث ساعات، لاحت له على الكثيب البعيد أطلال حجرية غريبة. كانت بقايا جدران منخفضة، مبنية من حجارة مختلفة عن تلك الموجودة في الصحراء. بدا كأنها جزء من بناء قديم، اندثرت ملامحه، لكن بقي ما يكفي ليجذب انتباهه.
الوصف التفصيلي للمكان:
عندما اقترب من الموقع، لاحظ أن الجدران مغطاة بنقوش باهتة، لم تكن عربية، بل تشبه الهيروغليفية أو شيئًا أكثر بدائية. وسط الأنقاض، وُجدت بئر صغيرة، مغطاة بنصف صخرة. أزاح الصخرة فظهرت فتحة بئر مظلمة تنبعث منها رائحة رطبة.
جلس بجوار البئر، أخرج دفتره، وبدأ في رسم النقوش وتدوين تفاصيلها. وعندما لمس إحدى الصخور المنقوشة، شعر باهتزاز خفيف تحت الأرض. ليس زلزالًا، بل كأن الأرض استجابت للمسة.
ثم فجأة، تردد صدى صوت، لم يكن قريبًا، لكنه كان واضحًا: "ارجع... ليس بعد..."
تجمد في مكانه، لا يعرف إن كان الصوت حقيقيًا أم تهيؤات، لكنه لم يخطُ خطوة أخرى.
اكتشاف غامض:
بين الركام، لاحظ لوحًا معدنيًا نصف مدفون في الرمل. أخرجه بصعوبة، وإذا به أشبه بباب قديم، لكن لا مقبض له. بجانبه، وُجدت علبة معدنية صغيرة تحتوي على بقايا ورقة مكتوبة بلغة حديثة: الإنجليزية. وكان فيها سطر واحد:
"المرحلة التالية لا تبدأ إلا عندما تواجه خوفك الأكبر."
قرأ العبارة مرارًا، ثم نظر إلى الباب الحجري، ثم إلى البئر. كان عقله يحاول فهم الربط بين كل هذه الرموز.
لكن قلبه بدأ بالخفقان بسرعة.
شيء ما على وشك الحدوث.
دخول الغرفة السرية:
وقف أمام الباب الحجري، وضع يده على النقش الأوسط، ثم ضغطه بحذر. سمع طقطقة، ثم بدأ الباب ينفتح ببطء، ليكشف عن ممر ضيق ينزل نحو الأعماق. هواء بارد اندفع نحوه من الفتحة، يحمل رائحة العفن والماء الراكد.
أضاء مصباحه اليدوي، وتقدم.
كانت الجدران الداخلية للممر محفورة برسومات تُظهر رجالًا يتبعون كائنًا له رأس كلب. تكررت نفس الرموز التي ظهرت على القلادة. بدأت الصور تتحول تدريجيًا إلى مشاهد عن طقوس، وقرابين، وموت.
كلما تعمق في الممر، ازداد شعوره بالثقل. لم يعد الأمر مجرد استكشاف، بل كأن شيئًا ما يُراقبه، يتنفس خلفه.
المواجهة الأولى:
في نهاية الممر، كانت هناك غرفة مربعة، ذات جدران ملساء. وفي وسط الغرفة، تمثال حجري لرجل يجلس على كرسي، يحمل بين يديه صندوقًا صغيرًا.
اقترب منه بحذر. لم تكن هناك فخاخ واضحة، لكنه كان يشعر أن أي خطأ قد يكلفه الكثير.
فتح الصندوق ببطء، ليجد داخله مرآة صغيرة، لكنها لم تعكس وجهه، بل مشهدًا مختلفًا تمامًا.
في البداية، لم يفهم ما يراه.
لكن بعد لحظات، بدأ يدرك.
كانت صورة لابنه كريم، يقف في غرفة مظلمة، يبكي، يصرخ باسمه: "بابا! بابا! لا تتركني!"
سقط سليم على ركبتيه، الدموع تملأ عينيه.
هذه هي المواجهة.
وصف المشاعر:
لم يكن ألمًا عاديًا. بل تمزيق داخلي. لم يكن كريم طفلًا حين غادره، بل شاب في ريعان شبابه، لكن الذنب الذي يحمله كان يعود دائمًا إلى تلك اللحظة: حين اختار الرحيل.
صرخ في الظلام: "كريم! أنا آسف! أنا لم أتركك! كنت أبحث عن شيء أجهله!"
لكن الغرفة بقيت صامتة، إلا من صدى صوته المتكسر.
ثم، فجأة، تحطمت المرآة داخل الصندوق، وتحولت إلى رماد. وسمع من جديد همسة: "الآن فقط... يمكنك المتابعة."
طريق جديد:
غادر الغرفة، مرهقًا جسديًا ونفسيًا. وعندما صعد من البئر، وجد أن الشمس بدأت بالزوال. لكن أمامه، كانت هناك سلسلة من العلامات المنحوتة في الأرض، تشبه خطوات متتالية، تقوده باتجاه الغرب هذه المرة.
وعلى صخرة مجاورة، وُجدت عبارة حُفرت حديثًا:
"اقتربت. لكن لا تنظر خلفك بعد الآن."
قرأها أكثر من مرة، ثم التفت غريزيًا للخلف، لكنه أجبر نفسه على التقدم. كانت الرمال من خلفه تهتز، كأن شيئًا ما كان يراقبه طوال الوقت.
خاتمة الفصل:
في نهاية اليوم، بنى خيمته عند قاعدة كثيب مرتفع، جلس يكتب في دفتره:
"لم أعد نفس الرجل. شيء ما تحطم داخلي، لكنه فتح بابًا آخر. هذه الصحراء لا تختبرك بجوعك أو عطشك، بل بما تخفيه داخلك. أتابع الرحلة غدًا غربًا، فربما أقترب من الإجابة، أو من النهاية."
🌒 الفصل الرابع: الرياح التي لا تُرى
مقدمة:
كانت الرياح هادئة تلك الليلة، لكن الصمت الذي أحاط بخيمة سليم لم يكن طبيعيًا. رائحة الغبار القديم لا تزال عالقة في أنفه، وأصوات خافتة لا تُفسر تتردد من بعيد. بعد الليلة التي واجه فيها ماضيه من خلال المرآة في الغرفة السرية، شعر أن شيئًا ما قد تغير جذريًا. لم يكن الطريق الذي يسلكه الآن طريقًا خارجيًا فقط، بل رحلة داخل ذاته، حيث تختبئ الوحوش الحقيقية.
ظهور العاصفة:
مع الفجر، نهض على صوت صفير الريح. كانت تختلف عن الرياح المعتادة. لم تكن تحمل معها الرمال فحسب، بل شعورًا عميقًا بالاضطراب. كلما تحرك خطوة، كانت الريح تشتد، كما لو أنها تحاول منعه من التقدم.
كان يمشي الآن عبر سهل رملي واسع، بلا كثبان تحميه، ولا صخور يستدل بها. فقط الأفق، ممتد بلا نهاية. حتى خطواته بدأت تختفي خلفه بسرعة، وكأن الرمال تمحو أثره عمدًا.
وصف المكان:
الأفق ممتد، مائل إلى اللون الأصفر الحارق، والسماء كأنها قُطعت بنصل حاد، صافية بلا غيوم، لكنها خانقة. في الأفق، ظهرت تلة منخفضة. اقترب منها، على أمل أن يجد شيئًا يرشده. وعند وصوله، اكتشف مدخل كهف ضيق، محاط بأعمدة من الحجارة المتآكلة.
لكن الريح توقفت فجأة عند المدخل.
وكأنها تخاف الدخول.
الكهف:
دخل ببطء. كان الظلام كثيفًا، لكن مصباحه اليدوي بدأ يكشف عن جدران محفورة، هذه المرة ليست برسوم، بل بكلمات. عربية قديمة، صعبة القراءة، لكنها مألوفة. قرأ بصوت متهدج:
"هنا تُختبر الأرواح... في الرياح التي لا تُرى."
وبينما يتقدم، شعر أن جدران الكهف بدأت تضيق، كما لو أن المكان نفسه لا يريد أن يسمح له بالمرور. لكنه تابع، مستندًا على الحائط، متشبثًا بكل ضوء يخرجه من مصباحه.
في عمق الكهف، وجد قاعة دائرية. في منتصفها دائرة حجرية محفورة في الأرض، وحولها تماثيل لرؤوس مخلوقات غير معروفة. بعض التماثيل كانت مكسورة، وأخرى مغطاة بنقوش تتوهج بخفوت.
وفجأة، سمع الهمسات.
أصوات من اللا مكان:
كانت تأتي من كل زاوية، لكنها لم تكن بالعربية أو بأي لغة بشرية. كانت كأنها موسيقى معكوسة، مشوشة، لكنها تحمل نغمة واحدة واضحة: الخوف.
وبينما يتأمل الدائرة، لاحظ أن الرموز التي على القلادة التي يحملها بدأت تتوهج بدورها. اقترب منها، فوضع القلادة في وسط الدائرة الحجرية.
حينها، حدث الانفجار الضوئي.
رؤية من الماضي:
سقط سليم على الأرض، لكنه لم يفقد وعيه. بل رأى.
رأى نفسه طفلًا صغيرًا، مختبئًا في غرفة ضيقة، والريح تهب خارج النافذة، بينما والده يصرخ في وجه والدته. رأى لحظة هربه من المنزل، رأى كل مرة خذل فيها من أحب، وكل لحظة ندم خبأها في ذاكرته العميقة.
ثم تحول المشهد. أصبح يرى شخصًا آخر، رجلًا مسنًا، يحمل القلادة نفسها، ويقف في نفس القاعة التي هو فيها الآن. كان ينظر إليه مباشرة، ثم يقول بصوت عميق:
"كلنا نعود إلى البداية. لكن ليس الجميع يجرؤ على العبور."
انهيار المكان:
انطفأ الضوء فجأة، وبدأت القاعة تهتز. الصخور تساقطت من الأعلى، والأرض بدأت تتشقق. سليم التقط القلادة وهرب نحو المدخل، لكنه لم يجده. لم يكن هناك باب. فقط جدار صلب.
صرخ، لكن لا صوت خرج.
ثم تذكّر: الرياح.
بدأ يتمتم بصوت عالٍ، يحاول مواجهة الخوف. تذكر العبارة التي قرأها: "هنا تُختبر الأرواح... في الرياح التي لا تُرى."
أغمض عينيه، وبدأ يتنفس ببطء، محاولًا تهدئة عقله. ثم، وكأن الجدار أمامه تلاشى تدريجيًا، ظهرت فتحة ضيقة.
ركض نحوها، وعبر.
العودة إلى السطح:
خرج من الكهف وهو يلهث، مغطى بالغبار. الشمس كانت قد بدأت تميل إلى الغروب، والهواء الآن ساكن. لكنه شعر أنه خرج من اختبار آخر. لم يكن جسديًا، بل روحيًا. شيء ما في داخله أصبح أقوى.
عند أسفل التلة، وجد حجرًا غريب الشكل، عليه نقش جديد:
"اختبرت الرياح... الآن واجه السر."
وأمام الحجر، كانت هناك خريطة صغيرة، محفورة على قطعة جلد، تشير إلى نقطة في قلب الصحراء... حيث لا يعيش أحد.
خاتمة الفصل:
في دفتره، كتب:
"الرياح التي لا تُرى ليست فقط في الخارج، بل تسكننا نحن. كلما واجهت خوفًا دفينًا، ظهرت لي الحقيقة. وهذه الحقيقة، مهما كانت مرعبة، هي طريق النجاة. الرحلة لم تنتهِ، بل بدأت حقًا."
🌑 الفصل الخامس: سرُّ القلب المحترق
مقدمة:
سليم الآن يقف أمام الخارطة الجلدية، يحملها بأصابعه المرتجفة، والعينان تلاحقان الخطوط المحفورة التي تؤدي إلى مكان لا اسم له، قلب الصحراء، حيث لا يسكن أحد. رغم ضباب الخوف، كانت رغبة الاكتشاف تغلب على كل شيء. ما السر الذي يُراد له أن يواجهه؟ ولماذا هو بالذات؟ أسئلة تُثقل كاهله، لكن لا مفر من التقدم.
الطريق إلى المجهول:
بدأت الشمس تتسلق السماء بينما كان سليم يشق طريقه في الرمال، متبعًا الإشارات المرسومة على الخارطة. مرّ بممرات ضيقة بين الصخور، ووديان جافة تسكنها الغربان، وحتى سرابٍ كاد يخدعه. لكنه قاوم، يقوده حدسه أكثر من الخريطة.
في اليوم الثالث، ظهر أمامه شيء غريب.
بُرج حجري ضخم، لا يتناسب مع طبيعة المكان، كأن من بناه أراد أن يتحدى الصحراء نفسها. كانت الأحجار ملساء، منقوشة برموز قديمة، تتطابق مع تلك التي على القلادة.
المدخل كان مفتوحًا، لكن الداخل منه يشعر كأن شيئًا ما يراقبه.
وصف البرج:
البرج من الداخل كان أشبه بمعبد قديم، الجدران مليئة بكتابات طقسية، مشاعل متوقفة، وسلالم حلزونية ترتفع إلى ما لا يُرى. كان المكان خانقًا، والهواء ساكنًا لدرجة أنك تسمع تنفسك.
لكن وسط هذا السكون، وجد لوحة حجرية ضخمة، محفور فيها رسم لرجل يحمل قلبًا مشتعلًا في يده، وتحتها عبارة تقول:
"من يحمل النار، يكشف الظلال."
شعر بقشعريرة تسري في عموده الفقري.
اللقاء بالأصوات:
بينما يتأمل النقش، سمع الصوت مجددًا. تلك الهمسات. ليست مجرد تهيؤات هذه المرة، بل كلمات واضحة:
"سليم... سليم... أأنت مستعد؟"
تجمد في مكانه. حاول الرد لكنه لم يجد صوته. فجأة ظهرت دائرة ضوء من أرضية الحجر، ووسطها قُدّمت له شعلة مشتعلة، تتوهج بلون أزرق غريب.
أمسك بها دون أن يشعر بحرارتها.
وحين فعل، تغيّر كل شيء.
رؤى متلاحقة:
العالم من حوله بدأ يتفتت. لم يعد في البرج. كان في مساحة لا شكل لها، محاطًا بظلال تتحرك، تهمس، تضحك، وتبكي.
رأى أشخاصًا يعرفهم، لكن وجوههم مشوهة. رأى والدته تبكي، ووالده يصرخ، ورأى نفسه يُدير ظهره لكل من أحب.
ثم، من وسط الظلال، تقدمت امرأة. لم يرَ ملامحها، لكنها قالت بصوت عذب:
"كل سرٍّ مدفون، يحتاج نارًا تكشفه. هذا هو قلبك، المحترق بما لم تواجه. هل تجرؤ على لمسه؟"
اختبار النار:
نُقل مرة أخرى إلى غرفة حجرية، لا باب لها ولا نافذة، وفي وسطها مذبحٌ صغير. على المذبح، قلب بشري نابض، مشتعلة أطرافه بنيران زرقاء.
صوتٌ داخلي همس له: "إن لم تلمسه، لن ترى."
مد يده، وكل خلية في جسده تصرخ، لكن حين لامسه، غمره شعور غريب: حزن، ندم، قوة، محبة، وخوف. لحظة مكثفة اختُزل فيها كل ماضيه.
ثم سمع الصوت يقول:
"أنت الآن تحمل الحقيقة. لكن لا تنسَ، من يرى الظلال، لا يعود كما كان."
العودة إلى الواقع:
عاد سليم إلى البرج، الشعلة ما زالت في يده، لكنها خفتت. وعلى الجدار خلفه، ظهر طريق جديد، ممرّ حجري يؤدي إلى الأسفل.
نزل عبره، بخطوات مترددة. عند النهاية، وجد بابًا خشبيًا ضخمًا، وعليه نقش نهائي:
"إلى بوابة السر... تجرأ وادخل."
فتح الباب.
خاتمة الفصل:
خلف الباب، ظهرت له مدينة قديمة مطمورة تحت الرمال، تتوهج أنقاضها بضوء خافت، وكأنها تنتظره منذ قرون. المدينة ليست مهجورة، بل نائمة.
في دفتره، كتب:
"النار التي في القلب، ليست لتدميرنا، بل لتضيء ظلال أرواحنا. وما سنجده بعد ذلك... يعتمد على ما إذا كنا مستعدين للرؤية حقًا."
🌕 النهاية: عندما تصحو الرمال
مقدمة:
المدينة التي كانت تنتظر منذ قرون قد استيقظت.
دخل سليم أرضًا لا تحوي سوى بقايا حضارة غامضة، لكن لها نبضًا يشبه النبض البشري. كل حجر، كل تمثال، كل ركن في المدينة المدفونة كان يحكي حكاية. لم تكن آثارًا ميتة، بل كأنها أرواح منسية تنتظر من يعيد كتابتها.
حمل سليم الشعلة المشتعلة بنور أزرق خافت، تلك التي ظن أنها ستنطفئ مع دخوله، لكنها ازدادت توهجًا. ومع كل خطوة خطاها، كانت الأرض ترتجف كأنها تهمس بشيء يعرفه.
المدينة التي تنبض:
كانت الشوارع مرصوفة، تتخللها جداول ماء راكد لكنه نقيّ، وعلى الجدران نقوش طقسية لأشخاص يحملون شعلة مثل شعلة سليم. في وسط الساحة الكبرى، وقف تمثال لرجل مقنع، يحمل بيدٍ كتابًا، وبالأخرى مفتاحًا.
اقترب سليم من التمثال، وعند قاعدته وجد نقشًا بلغة قديمة تمكن من فهمها، وكأن الشعلة تساعده:
"من يُدرك سره، يفك باب العودة."
تحسس وجه التمثال، فاهتزت الأرض، وانشقَّت الساحة عن درجٍ حجري يؤدي إلى قاعة مدفونة.
الدخول إلى القاعة:
القاعة كانت ضخمة، يتوسطها عرش حجري، لكنه ليس لملك. بدا وكأنه لراهب، وأمامه مذبح صغير، عليه كتاب قديم جدًا.
فتح سليم الكتاب، فانبثقت منه أضواء خضراء وزرقاء، جعلت الجدران تتحرك، وتعرض له مشاهد حية:
• المدينة في مجدها.
• الطقوس التي أُقيمت لحماية السر.
• الوعود التي قُطعت.
• واللعنة التي انطلقت حين كُسر العهد.
كان كل شيء متصلاً بشخص يُشبهه.
الحقيقة تُكشف:
بدأت الصور تترسخ. سليم لم يكن مجرد غريب دخل هذا المكان صدفة. بل هو سليل أحد حُماة السر، رجل هرب منذ قرون وترك المدينة لمصيرها.
والآن، عادت المدينة لتناديه كي يُصلح ما أفسده السلف.
في نهاية الكتاب، ظهرت له عبارة نهائية:
"ما بينك وبين الرمال، عهدٌ لم يُغلق بعد. لا تغادر حتى تُعيد ما سُلِب."
سمع أصواتًا قادمة من الخارج. أصوات لا تشبه البشر. أقرب لهمسات الأرواح.
خرج من القاعة ليجد المدينة وقد تغيرت. الأضواء مشتعلة، الساحة امتلأت بظلال تتحرك، تشبه الناس لكنها بلا وجوه.
المرأة التي رآها في رؤاه، كانت تقف على أعلى درجات المعبد، تهمس له:
"سليم، ليس عليك القتال، بل التذكُّر."
الطقوس الأخيرة:
عاد إلى المعبد، ووجد نفسه واقفًا أمام مرآة حجرية. لم يرى فيها صورته، بل مشاهد من طفولته، خياناته الصغيرة، خوفه من الموت، ورغبته في أن يُثبت نفسه.
ثم رأى جدّه. نفس الرجل الذي منحه القلادة.
قال له:
"هذا ليس إرثًا يا سليم، بل تكليف. اختر: إما أن تهرب كما فعلتُ، أو أن تُتم النور الذي بدأته النار."
اختار سليم أن يبقى. أن يُعيد الطقس. أن يُطفئ الشعلة داخل المذبح.
فعل ذلك، وأضاءت المدينة كلها بنور ذهبي. الظلال بدأت تختفي. الرمال بدأت تُعيد غطاءها على المدينة.
الخروج:
سُحِبَ سليم من المكان بقوة غير مرئية. استيقظ قرب واحة، حيث بدأت رحلته قبل أيام. القلادة ما زالت في عنقه، لكن الشعلة اختفت.
المدينة، وكأنها لم تكن.
لكن في دفتره، سطرٌ جديد كُتب بخط ليس خطه:
"عدت لأنك واجهت. الرمال تبتلع كل شيء، إلا الحقيقة."
خاتمة القصة:
عاد سليم إلى قريته، ليس كما خرج. بات يرى الأشياء كما لم يكن يراها: بعين من عبر على الظلال، وأدرك أنه مهما توغلنا في الخارج، يبقى الاكتشاف الأعظم دائمًا في الداخل.
في محاضرة ألقاها بعد سنوات، قال:
"كل خطوة على الرمال تُخبرك بشيء، لكن فقط من يملك الشجاعة ليسأل نفسه: لماذا أسير؟ هو من يسمع الحقيقة."
ثم أغلق دفتره، وابتسم للريح القادمة من الجنوب.